وجهات نظر

السياسة والسلام ونوبل... مفارقات ترامب!

حدث ما كان متوقّعًا، لم يحصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب على جائزة "نوبل للسلام" رغم ضغوطه التي وصلت إلى حدودٍ لم تكن مُتخيّلة، وتصريحاته المتواترة بمناسبة أو بغير مناسبة، عن أحقّيته المُطلقة بها.

السياسة والسلام ونوبل... مفارقات ترامب!

لم تُخْفِ الحكومة النرويجية، التي تحتضن عاصمتها أوسلو الجهة المانحة للجائزة، خشيتها ممّا قد تتعرّض له من عقوباتٍ ماليةٍ وغير مالية، إذا ما استُبعد اسمه ممّا يراه حقًّا لا يصحّ أن ينازعه فيه أحد، بغضّ النظر عن القواعد والمواقيت التي تحكم منح الجائزة. الخشية المُعلنة تعبير عن جموح قوةٍ لرجلٍ لا تحكمه قواعد، ويمكن أن يفعل الشيء وعكسه في الوقت نفسه.

بحكم القواعد المستقرّة، فإنّ باب الترشّح لجائزة "نوبل للسلام" يُغلَق في 31 يناير/كانون الثاني من كلّ عام، فإذا ما حصل عليها عنوةً رئيس أقوى دولة في العالم فإنّها الضربة القاصِمة لما تبقّى لها من احترام.

كانت تلك مفارقة أولى في قصة "ترامب" و"نوبل".

جائزة "نوبل للسلام" مُسيّسة فعلًا، وتصدر عن لجنةٍ من خمسة نواب منتخبين في البرلمان النرويجي، وسمعتها ليست فوق مستوى الشبهات، لكنّ تجاوُز ما لا يمكن تجاوزه مسألة أخرى.

المفارقة الثانية، أنّ المُعارِضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو، التي فازت بالجائزة، تنتمي بأفكارها ومواقفها إلى سياسات "ترامب"، المُناهضة لحكم الرئيس نيكولاس مادورو سعيًا لإسقاطه.

يستحيل تبرئة ترامب من مسؤولية تغطية أبشع الجرائم في غزّة

"أثبتت لجنة نوبل أنّها تُغلّب السياسة على السلام".. كان ذلك تعليقًا أوّليًا من البيت الأبيض على تبدّد حلم ترامب.

أيّ سياسة، وأيّ سلام! كلاهما لا يمتّ بصلة إلى القيم الإنسانية، التي نصّت عليها وصية مؤسس الجائزة "ألفريد نوبل". وكلاهما يتبنّى استخدام القوة العسكرية المباشرة لتغيير نظام مادورو، بذريعةٍ أو بأخرى.

مرةً بذريعة الاتّجار في الكوكايين وتصدير كميات كبيرة من المواد المخدّرة إلى الولايات المتحدة حيث استهدفت البحرية الأميركية زوارق فنزويلية في البحر الكاريبي.

أعلن ترامب أنّه قد يتدخّل برّيًا، لكنّه لم يتورّط حتى الآن خشية العواقب.

لم تتردّد الفائزة بجائزة "نوبل للسلام" في دعم العمليات العسكرية، التي أقدم عليها ترامب، أو التي يتوعّد بتصعيدها!

قالت نصًّا: "إنّه صاحب رؤية"... وأشادت بإرسال تعزيزات بحرية أميركية قبالة السواحل الفنزويلية.

ومرةً أخرى، بذريعة "استعادة الديموقراطية وتحقيق انتقال عادل وسلمي من الديكتاتورية إلى الحكم المدني"، وفق حيثيّات لجنة "نوبل للسلام" في منح المعارِضة الفنزويلية جائزتها لهذا العام.

لم يأتِ ترامب على ذكر اسمها وهو يروي قصّة اتصالٍ هاتفيّ أجرته معه: "إنّ الشخص، الذي حصل بالفعل على جائزة نوبل اتصل بي قائلًا: أقبل هذه الجائزة تكريمًا لك، لأنّك حقَا تستحقّها!"

"كان ذلك أمرًا لطيفًا للغاية على الرَّغم من أنّني أعتقد أنّها ربما كانت ستفعل ذلك".

هو - كما يعتقد - رجل سلام نجح في إيقاف ثماني حروب آخرها الحرب على غزّة!

أنجز ما لم يُنجزه أي رئيس أميركي سابق بمَن فيهم الذين حصلوا على جوائز "نوبل للسلام" مثل جيمي كارتر وبيل كلينتون وباراك أوباما قبل أن يفعل أي شيء!

بحسابات الضمير الإنساني وقواعد القانون الدولي، يستحيلُ تمامًا تبرئة ترامب من مسؤولية تغطية أبشع الجرائم التي ارتُكبت في غزّة المُحاصَرة تقتيلًا جماعيًا وتجويعًا منهجيًا.

لم يكن خافيًا على أحد أنّ داعيه الأول لتقديم خطته للسلام في غزّة، إنقاذ إسرائيل من تبعات تحطّم صورتها، حتى لا تجد نفسها في عزلةٍ دوليةٍ كاملةٍ كـ"دولةٍ منبوذة".

كانت التظاهرات والاحتجاجات، التي شملت العواصم الأوروبية والغربية تنديدًا بالجرائم البشعة التي تُرتكب في غزّة من دون خشية عقاب كأنّ الدولة العبرية فوق القانون، إنذارًا بتغييرٍ جوهريّ في البيئة الدولية بدأت تنفذ إلى مؤسّسات الحكم ومراكز القرار، التي دأبت طوال سنوات الصراع العربي - الإسرائيلي على دعم إسرائيل.

بدا الزخم الدولي في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، على الرَّغم من رمزيّته، مُحمَّلًا برسائل إلى المستقبل المنظور.

خسرت إسرائيل صورتها وسرديّتها معًا، وبدت مأساة الضحية الفلسطينية قضيةً إنسانيةً مُلهمةً للأجيال الجديدة في أوروبا وداخل الولايات المتحدة نفسها.

كان مثيرًا للسخرية تصدّر رجلٍ بمواصفات "نتنياهو"، المتّهم الأول أمام "محكمة العدل الدولية" بارتكاب الإبادة الجماعية والمُلاحق من "المحكمة الجنائية الدولية" بمذكّرة توقيف، مشهد ترشيح ترامب للجائزة أمام الكاميرات في البيت الأبيض.

كان ذلك داعيًا لسحب أي جدارة مُدّعاة بالجائزة المنسوبة للسلام، وإهانةً فادحةً لأي سلام، باستثناء ما يُسمّيه ترامب "سلام القوة"!.

إسرائيل سوف تحقّق بالتفاوض ما عجزت عنه بالسلاح إذا لم يكن هناك ضغط عربي قوي ومنسّق

بتعبير وزير الخارجية المصري الأسبق نبيل فهمي، المُرشّح لتولّي منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية في غضون شهور قليلة، فإنّ "خطة ترامب مكتوبة بقلم رصاص"، قاصدًا أنّ مراحلها التالية سوف تخضع لإعادة التفاوض والتأويل حسب موازين القوى المُتغيّرة.

إذا لم يكن هناك ضغط عربي قوي ومنسّق، فإنّ إسرائيل سوف تحقّق بالتفاوض ما عجزت عنه بالسلاح.

هناك فارق جوهري بين أن يكون هناك مخطّط سلام يُفضي إلى إعلان دولةٍ فلسطينيةٍ كاملة السيادة وبين إجهاض القضية كلّها.

المفارقة الأفدح أن ماتشادو تعتبر نفسَها "حليفةً لإسرائيل"... ويَجمع حزبها الذي أسّسته "فينتي فنزويلا"، بروتوكول تعاون مع "الليكود" الذي يتزعّمه نتنياهو.

"إنّ القوى الديموقراطية في فنزويلا وإسرائيل لهما عدوّ مشترك يتمثّل في القوى الإجرامية، التي تقوّض الحرية والسلام في العالم".

هكذا صاغَت نظرتها إلى صراعات الشرق الأوسط.

إنّه الموقف النقيض لما تبنّته فنزويلا خلال عهدَيْ هوغو تشافيز وخليفته مادورو.

إثر السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023)، شهدت العاصمة كاراكاس تظاهرات حاشدة ترفع الأعلام الفلسطينية دعمًا للمقاومة الفلسطينية أمام أبشع جرائم الحرب في العصور الحديثة.

"سامِحوني إذا قلت إنّني أخجل من ارتباط اسمي بجائزة نوبل".

"أنا أعلن عن إعجابي غير المحدود ببطولة الشعب الفلسطيني، الذي يقاوم الإبادة على الرَّغم من إنكار القوى العظمى، أو المثقّفين الجبناء في وسائل الإعلام، أو حتى بعض العرب لوجوده".

هكذا لخّص الأديب الكولومبي الأشهر غابريال غارسيا ماركيز مأساة الجائزة المُسيّسة والمأساة العربية معًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن