الحروب، وإنْ بدت في ظاهرها مواجهات عسكرية، فإنّ كلفتها الحقيقية تُقاس بما تُبدّده من فرصٍ وما تُهدره من مواردٍ وما تُعطّله من مساراتٍ تنموية. إنّ ما شهدته غزّة من دمارٍ غير مسبوقٍ لم يكن أزمةً محليةً فحسب، بل زلزالًا اقتصاديًا امتدّت ارتداداته إلى المنطقة بأسرها، ليذكّر العرب بأنّ الأمن لا يتحقّق إلّا بالازدهار، وأنّ التنمية هي حارس السلام الأوثق. ومع اقتراب الحرب من نهايتها، يُطلّ سؤالٌ جوهريّ: كيف يمكن تحويل مأساة الحرب إلى انطلاقةٍ اقتصادية؟ وكيف تُستثمر وفورات السلام في تصحيح مسار التنمية العربية نحو نموذجٍ أكثر توازنًا واستدامة؟.
المطلوب الانتقال من اقتصاد النّجاة إلى اقتصاد الاستدامة
تكشف التقديرات الدولية (المُحافِظة) عن حجم الخسائر المروّعة التي خلّفتها الحرب في غزّة، إذ بلغت الأضرار المباشرة وغير المباشرة نحو 18.5 مليار دولار، وفق تقييمات البنك الدولي وشركائه[i]. كما تراجع الناتج المحلّي الإجمالي للأراضي الفلسطينية بنسبة 35% في الربع الأول من عام 2024 وحده، مع انكماشٍ تجاوز 86% في غزّة وحدها[ii]. ولم تكن إسرائيل بمعزلٍ عن الخسائر، فقد بلغت تكلفة الحرب حتى مايو/أيار 2024 نحو 250 مليار شيكل، فيما تتوقّع التقديرات أن تصل إلى 66 مليار دولار في نهاية العام، أي ما يُعادل 12% من الناتج المحلي السنوي[iii] [iv]. هذه الأرقام لا تعني فقط أموالًا مُهدرةً، بل تعبّر عن فرص إنتاجٍ وتعليمٍ وصحةٍ وتنميةٍ ضاعت في دوّامة الحرب، وعن سنواتٍ من التأخّر في مضمار التنافس الدولي.
يحمل انتهاء الحرب في طيّاته إمكاناتٍ هائلةً لما يُمكن تسميته بـ"وُفورات السلام". فاستقرار الإقليم يُخفّض تكلفة الأمن والدفاع، ويُعيد توجيه الإنفاق العام نحو البنية التحتية والتنمية البشرية، ويُحفّز الاستثمارات التي كانت تترقّب انتهاء التوتّر. السلام يُبدّل المُعادلة النفسية قبل الاقتصادية، إذ يُعيد الثقة للأسواق ويمنح المستثمرين والمموّلين شعورًا بالقدرة على التنبّؤ. كما يؤدّي خفض المخاطر الإقليمية إلى تقليص تكاليف التأمين والنقل والتجارة، خصوصًا في ممراتٍ حيويةٍ مثل "البحر الأحمر" و"قناة السويس"، التي شهدت اضطراباتٍ رفعت كلفة النقل البحري عالميًا خلال الحرب[v]. وبتراجع المخاطر، يمكن أن تستعيدَ المنطقة العربية دورها التاريخي كمحورٍ لوجستيّ وتجاريّ يربط القارات الثلاث، فيتحوّل السلام إلى مُحفّزٍ مباشرٍ للنموّ، لا مجرّد غيابٍ للحرب.
أحد أبرز مسارات تصحيح التنمية يتمثّل في إطلاق مشروعات الربط الإقليمي التي تتجاوز حدود الدولة القُطرية
غير أن تلك الوفورات لا تتحقّق تلقائيًا بمجرّد توقّف القتال، بل تحتاج إلى إدارةٍ اقتصاديةٍ رشيدة. يُتيح السلام فرصةً لإعادة تصحيح مسار التنمية العربية الذي ظلّ لعقودٍ أسيرَ النّمط الطارئ وردّ الفعل، حيث كانت السياسات الاقتصادية تُبنى على التكيّف مع الأزمات أكثر من استباقها والاستعداد لها بما يُعرف بالسياسات المضادّة للتقلّبات (Counter Cyclical Policies). المطلوب اليوم هو الانتقال من اقتصاد النّجاة إلى اقتصاد الاستدامة، فبدلًا من أن تتّجه الموازنات العامّة للدول العربية إلى تعزيز الإنفاق الدفاعي، يمكن إعادة توزيع الموارد نحو التعليم والتدريب والبحث العلمي والصحة، أي نحو بناء الإنسان العربي القادر على الإنتاج والابتكار. كما أنّ السلام يفتح الباب أمام استثماراتٍ استراتيجيةٍ في قطاعات الزراعة والطاقة المتجدّدة والرقمنة، لتتحوّل الأموال المخصّصة للتسلّح إلى موارد للابتكار والنموّ.
إنّ أحد أبرز مسارات تصحيح التنمية يتمثّل في إطلاق مشروعات الربط الإقليمي التي تتجاوز حدود الدولة القُطرية، مثل شبكات الكهرباء العابرة للحدود، والمناطق الصناعية المشتركة، والممرّات الزراعية والتجارية التي توحّد الموارد العربية وتزيد من كفاءة استخدامها. كما يمكن تأسيس صندوقٍ عربيّ للوفورات الاستثمارية يُخصِّص جزءًا من موازنات الدفاع السابقة لتمويل مشروعات تنموية مشتركة، بما يُشبه "خطة مارشال" عربية ذاتية التمويل تستهدف إعادة الإعمار كمكوّن أساسي. فبدلًا من الاعتماد على القروض أو المنح الخارجية، يُمكن توجيه عائدات السلام لتأسيس اقتصادٍ عربيّ متكاملٍ يُوازن بين السيادة الوطنية والمصالح المشتركة.
السلام لا يُصان إلّا باقتصاد حارس له يوظّف موارده في بناء مؤسّسات قوية
وليس من المبالغة القول إنّ تجربة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية يمكن أن تُلهمَ العالم العربي اليوم. فقد أدركَت القارة المنهكة آنذاك أنّ استدامة السلام مرهونة بتكاملٍ اقتصاديّ حقيقيّ، فأنشأت مؤسّساتٍ إقليميةً عزّزت التعاون في مجالات الطاقة والاستثمار والتجارة، فكانت النتيجة بناء واحدةٍ من أقوى التجمّعات الاقتصادية في التاريخ الحديث. السلام العربي، إن حَسُنَ استثماره، يمكن أن يكون نقطة انطلاقٍ لمشروعٍ تكامليّ مماثلٍ، يربط الثروة بالاستقرار، والأمن بالازدهار. وقد أظهرت دراسات مُتخصّصة أنّ إحلال السلام في الشرق الأوسط قد يُضاعف من حجم التعاون الإقليمي في مجالات التجارة والعمل ورأس المال، ويُعزّز الناتج الإقليمي بمعدلاتٍ ملحوظةٍ خلال عقدٍ واحد[vi].
لكنّ تلك الآمال تصطدم بخطر التراخي الذي كثيرًا ما أعقب اتفاقاتٍ سياسيةً لم يُكتب لها ترجمة اقتصادية. فغياب الرؤية الموحّدة، وضعف التنسيق المؤسّسي، والفساد الإداري، كلّها قادرة على تبديد ثمار السلام وتحويل الوفورات إلى هدرٍ داخلي. السلام لا يُصان إلّا باقتصادٍ حارسٍ له، يضمن توزيع عوائده بعدالة، ويوظّف موارده في بناء مؤسّساتٍ قويةٍ لا في ترميم الأضرار فحسب. فإذا فُقدت الموارد في الحرب فإنّ استعادتها بالسلام تتطلّب إدارةً واعيةً وشراكةً عربيةً جدّية.
(خاص "عروبة 22")[i] Atlantic Council, The Economic and Social Costs of the War in Gaza, 2024.[ii] United Nations, World Bank Report on Palestinian Economy, September 2024.[iii] Arab Center DC, The Estimated Cost of the Gaza War on the Israeli Economy, 2024.[iv] Michigan Journal of Economics, Economics of Warfare, May 2025.[v] Economics Observatory, How Might a Wider Middle East Conflict Affect the Global Economy? 2024.[vi] ResearchGate, The Potential Effect of Peace on Regional Economic Cooperation in the Middle East, 2024.