صحافة

هل غزة على موعد مع الحياة؟

ناجي صادق شراب

المشاركة
هل غزة على موعد مع الحياة؟

توقفت حرب السنتين بعد أن دمرت كل مكونات الحياة في أكثر بقعة في العالم كثافة سكانياً بمساحتها التي لا تتجاوز الـ360 كيلومتراً مربعاً يعيش عليها مليونان ونصف المليون نسمة، ونسبة الفقر فيها تصل إلى خمسين في المئة، والبطالة تفوق السبعين في المئة وبعد حرب راح ضحيتها أكثر من سبعين ألف ضحية أغلبيتهم من الأطفال والنساء والمسنين وأكثر من مئتي ألف ما بين جريح ومعاق وفاقدي القدرة على الحياة، ليتحولوا إلى عبء على أي إدارة جديدة. وقفت الحرب ولكنها لم تنته رغم اتفاق السلام الذي تم توقيعه في شرم الشيخ من دون معرفة كيف سيتحقق هذا السلام.

الحياة الجديدة لها مقوماتها وشروطها ومحدداتها وهذه الشروط تحكمها عوامل متعلقة بإسرائيل التي تتبنى خيار الحرب في علاقاتها مع غزة وبمن يحكم غزة حماس أم السلطة الفلسطينية الشرعية أم إدارة دولية، فهذه الحرب تركت تداعيات تجاوزت حدودها الضيقة لتصل إلى كل العواصم العالمية وتركت تداعياتها على مستوى المنطقة العربية والشرق الأوسط، لتفتح الباب أمام خيار الحرب الدائمة، فالحرب هي امتداد للسياسة والسياسة تحكمها نتيجة الحرب والواقع السياسي الجديد. فحين تفشل السياسة تكون الحرب وحين تبدأ الحرب تكون السياسة هي المخرج والمنقذ.

ومن مبادئ الحرب ما قاله المفكر الاستراتيجي الألماني كارل كلاوزفيتز في كتابه (عن الحرب): "إن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى". والمقصود أنه عندما تفشل الوسائل الأخرى في تسوية الخلافات، تلجأ الدول إلى الحرب وهذا هو حال غزة، فشلت السياسة في تحقيق السلام وقيام الدولــــة الفلسطينية وإنهـــاء الاحتلال الإسرائيلي ورفع الحصار عن غزة، لتذهب إلى أطول حرب عرفتها المنطقة وهي من الحروب غير المتكافئة بين إسرائيل كدولة قوية ومدعومة من قبل أقوى دولة في العالم وهي الولايات المتحدة وبين حماس وفصائل المقاومة الأخرى بأسلحتها التقليدية على أرض لا تصلـــح للحرب تتحكم إسرائيل في كل منافذها ورغم ذلك لم تحقق إسرائيل أهدافها المعلنة حتى الآن كما لم تحقق حماس أهدافهـــا أيضاً، إذاً هي حرب صفريــــة، لكنها كانت ثقيلة على الشعب الفلسطيني، كما أن تداعياتها تركت آثارها على إسرائيل التي باتت تعاني عزلة دولية، كما فقــــدت أخلاقياتها وديموقراطيتها التي كانت تتباهى بها.

أهمية غزة أنها المحرك والبوابة الواسعة للسلام الدائم الذي تحدثت عنه مبادرة ترامب وأساسها إعادة بناء الحياة في غزه والبناء هنا ليس بالإعمار والبناء فقط ولكن الأهم هو إعادة بناء الإنسان الفلسطيني على أسس ومعايير وقيم جديدة كغيره من شعوب الأرض وهذه الحياة تكون على أرض غزة وليست على أرض غيرها، من هنا كان رفض التهجير الذي هدفت إليه إسرائيل من وراء حربها. الحياة الجديدة تحتاج إلى بنية تعليمية وصحية جديدة وعلى مستوى عال من التقدم والرقي وتقوم على البناء والسلام والتعايش ونبذ العنف وتحتاج إلى بنية اقتصادية مستقرة، فغزة وبحكم كل خصائصها الجيوسياسية والسكانية لا تصلح لخيارات الحرب وكما يقال: إن غزة تجارية، فطبيعتها وطبيعة سكانها تنموية مدنية تعايشية، كما أن غزة وعبر تاريخها قدمت أنموذجاً راقياً للتعايش بين سكانها المسلمين وبين سكانها من الأقباط، فكانت الكنيسة بجوار المسجد، هذا هو النموذج المطلوب استعادته من جديد.

لكن الإشكالية في الحياة الجديدة المبتغاة لقطاع غزة تكمن في إسرائيل وسياستها وخياراتها العسكرية وأحلامها التوسعية وسياساتها العنصرية ورفضها لمبدأ السلام وحصارها الدائم لغزة، فالنموذج الجديد للحياة هو النموذج التنموي المدني والتعايش المشترك وهذا يتطلب مقاربات للحوار والتعايش ونبذ العنف والكراهية التي أوجدتها وعمقت جذورها حرب السنتين والحكم اليميني المتطرف في إسرائيل، على أن تحكم غزة من إدارة مدنية ولكي يتحقق هذا الهدف لا بد من استئصال كل بذور الحقد والكراهية والقتل والانتقام لن يكون إلا بحل للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وأساسه إنهاء الاحتلال، ومعاملة الإنسان الفلسطينى على أساس مقاربة الحقوق المتساوية مع غيره والحديث عن هذه الحياة الجديدة هي المقاربة للسلام الدائم والشامل على مستوى المنطقة وهو الاختبار الحقيقي لكل المبادرات المطروحة وبقدر إحساس المواطن في غزه بكرامته وآدميته وإنسانيته بقدر بلوغ وتأسيس هذه الحياة الجديدة التي تُبنى في العقول وفي البناء الفكري والعقيدي الذي يدعو للبناء والحياة.

هذه هي حياة غزة عبر كل مراحلها التاريخية كمنطقة عابرة للتاريخ وتلاقي كل الثقافات والتعايش المشترك وشهرتها بارتفاع نسبة تعليم أبنائها. والإشكالية الأخرى التي تواجه الحياة الجديدة والتي على حماس وكل الفصائل الأخرى إدراكها هي أن عملية الإعمار اليوم هي الأولوية ولا يمكن لهذا الإعمار أن يتم مع السلاح ونزع سلاح غزة مرهون بإعمارها وبناء الإنسان الجديد فيها.. الإنسان الذي قدم العلماء والمبدعين في كل مكان. ويبقى أن هذه الحرب قلصت الخيارات في خيارين، إما خيار استمرار الحرب والدمار الكامل وإما خيار الإعمار والبناء والإنسان الجديد.

(الخليج الإماراتية)

يتم التصفح الآن