الوضع القائم بين إسرائيل وبين حزب الله منذ انتهاء حرب "تفجيرات أجهزة الإتصال وما تلاها" هو وضع غير مسبوق في تاريخ "الحروب غير المتكافئة". فمنذ سريان "وقف اطلاق النار" الذي ظهر أنه من جانب واحد، تواصل إسرائيل هجماتها اليومية، التي تصاعدت وتيرتها بشكل نوعي في الأيام الأخيرة، ضد مواقع تعتبر أنها للحزب وترسانته، بل حتى ضد معامل اسمنت لمنع إعادة إعمار المناطق المنكوبة جنوباً. كل هذا من دون أي رد منذ ما يقارب العام من طرف الحزب. من جهة، لا رد، ومن جهة الاستمرار على الخطاب نفسه، خطاب العودة الى الجهوزية، و"التعافي"، والرفض القطعي لقرار الدولة اللبنانية بسحب سلاحه. فما هو شكل الحرب غير المتكافئة بين إسرائيل ولبنان اليوم؟
تتواجه عادة في هذا النوع من الحروب القوة العسكرية المنظمة – وهذه تعتمد في حالة إسرائيل على مجمع صناعي تكنولوجي متقدم، متصل مباشرة بالقوة الإمبراطورية الأمريكية، مع جماعة مسلحة يفترض أن تسعى للتعويض عن التفاوت البنيوي في الموارد والقدرات، بالتمرس في حرب العصابات والتكتيكات غير التقليدية لأجل استنزاف العدو، وانهاكه مجتمعاً ودولة، مع تحويل إطالة زمن المواجهة الى مشكلة أكبر عند الطرف الأكثر تفوقا كونه الأكثر اعتمادا على المعقولية الحسابية، أي صاحب مصلحة في تقليل خسائره وأكلافه، وفي أقل الإيمان جعلها محددة السياق والأمد، فُيعرف عند كل منعطف متى تبدأ هذه الأكلاف وأين تتوقف، وما هي الحصيلة وثمنها، والنتائج الملموسة لكل معركة على أمن مجتمع هذه الدولة.
المفارقة هنا أن فكرة "الحرب غير المتكافئة"، بما تعنيه من إمكانية تعويض اللاتكافؤ على المستوى العلمي – التكنولوجي والعسكري بوسائل أقل تطورا وموارد أقل وعديد أقل، إنما تعتمد على الرهان على زعزعة الخصم من الداخل وإرهاقه وتحويل التفوق الهيكلي للخصم الى وطأة عليه وكل هذا يستدعي التمييز بين "مدنييه وعسكرييه"، في حين أن ألف باء الكفاح المسلح "الفصائلي" مع إسرائيل يقوم على التبرؤ من هذا التمييز وعدّه نقيصة، أو "طرفَ تطبع" مع فكرة وجود وبقاء إسرائيل.
والمسألة هنا ليست في نقاش أصل هذه الثنائية ومدى انطباقها على الحالة، بقدر ما أنها في التناقض بين التعويل على الحرب غير المتكافئة، وبين الرفض الدفين لهذه القسمة، بألف حيلة. إذا لم تكن إسرائيل سوى "عسكر"، عندها، لا يعود ردم الفارق في القدرات ممكناً بنفس الطريقة التي يردم فيها الفارق في حرب عصابات. فحرب العصابات في تعريفها هي الحرب القائمة على انهاك الخصم الأكثر امتلاكا للقدرة على الفتك إنما بالتعويل على دق الاسفين بين عسكره ومدنييه. والا أنى لهذا الفارق أن يُردَم؟ في حرب العصابات، القوة غير النظامية هي التي تجد مصلحتها في الحرب الدائمة، انما استدامة تقوم على المراوغة والمتنقلة والمتقطعة والمفاجئة، وتنافي الحرب الشاملة و"الوجودية".
عندما تقترب القوى غير النظامية من منطق الحرب الوجودية لا يعود بإمكانها توظيف الحرب الدائمة لحسابها، فيتضاعف حينها التفاوت في الانهاك، بين مجتمع القوة المنظمة وبين النسيج الأهلي الذي تتحرك فيه أو تتجمد فيه القوة غير النظامية، التي حتى ولو حاكت ما هو "نظامي" في بعض أشكال الانضباط والانتفاخ والاستعراض، انما يكفي اشتعال الحرب ضدها لإرجاعها الى طبيعتها الأولى، دون أن يعني ذلك أنها ستكون حينئذ قادرة على التصالح مع زمنها الأول، قبل أن تأخذها السكرة وراء حلم التحول، بدورها، الى "قوة نظامية".
مع هجمات السابع من اكتوبر، دخل منطق "الحرب غير المتكافئة" في اختبار حقيقي. لأن هذه الهجمات فجّرت التناقض بين نهج حرب العصابات وبين نهج الحرب الوجودية الشاملة. إما هذه وإما تلك. وعندما تخلط بين النهجين لا يعود الاكتفاء بالنهج الأول أو العودة إليه سهلا. أما الانهاك المجتمعي فيصير مطابقا للتفوق العلمي التكنولوجي العسكري وليس معاكسا له. لا يلغي ذلك أبعادا أخرى تتصل بالطابع الإبادي للحرب وأثره على إسرائيل نفسها بعدها، وبالسمة الكوكبية لصراع السرديات، بهذا الصدد، وارتباطها الى حد كبير بثنائية "الإمبراطورية في مواجهة الشعوب"، بصرف النظر عن درجة اقتراب هذه الثنائية من حقيقة الأشياء في واقعنا، الأقل "ملحمية" بكثير.
أما حرب الإسناد التي اعتمدها "حزب الله" للضغط على الجبهة الشمالية لإسرائيل والتأثير على مجرى حربها في غزة فإنها ابتعدت عن الطابع "الوجودي" بل الأبوكاليبسي للمنازلة، كما رأيناه في هجمات حماس، لصالح ما هو أقرب الى "الحرب الكلاسيكية" على خط الجبهة، انما نوع من الكلاسيكية يجعلك تغفل عن اللاتكافؤ بشكل أو بآخر. حتى إذا ما فرضت إسرائيل في نهاية المطاف، خيار "الحرب الوجودية"، أي حرب الافناء، من جانبها هي، على حزب الله وقياداته وكوادره، استمر الحزب في تكتيك صاروخي محدود يعطي الاولوية لوقف الحرب الاستئصالية له بأسرع وقت ممكن، مهما كان الثمن. والثمن ما نشهده اليوم. أن يقصف لعام كامل، كل يوم بيوم، ولا يرد. وأن يسعى في كل اليوم، في المقابل، لأجل إعادة تجهيز بُناه وقدراته من بعد الضربات النوعية المتتالية قبل عام.
عملياً، السؤال المتكرر ما اذا كانت ستقع الحرب مجددا بين إسرائيل وبين الحزب ولبنان يتعارض مع كون الحرب مستمرة، انما من جانب واحد. لكنه يتعارض أيضا مع إمكانية ان تتحول الى حرب بين جانبين مجددا. بالنسبة الى حزب الله المواجهة اليوم تحتسب بشكل آخر: إسرائيل تسعى للتفكيك النهائي له، وهو يسعى لإعادة بناء قدراته تحت الضغط، بل الصلي الصاروخي من قبلها، والضغط التعبوي من قبل أخصامه في الداخل والاقليم، والاسناد الأمريكي في الحالتين. رهان الحزب إذا أنه ما دام لا يرد، متجنبا فتح الحرب الشاملة في الوقت الحالي، فبمستطاعه تدريجيا أن يعيد بناء قدراته. والا كيف لها أن تفتح هذه الحرب الشاملة من دون رده على أي غارة تستهدفه.
في الوقت نفسه، مساحة الخيار هنا أضيق من ذي قبل. هو لا يرد لأن نتائج حرب العام الماضي، ومسار وقف اطلاق النار من جانب واحد من وقتها، ونتيجة عامين من الحرب في غزة، ونتيجة الحرب بين إسرائيل وايران، ونتيجة استبدال النظام في سوريا، كل هذا، يفترض أنه يصعب عليه الرد، وأسهل عليه بدلا من ذلك أن يقف وراء خطاب "تحصيل الحاصل": من أن الدبلوماسية لا تجدي لاستعادة الأرض. وهي بالفعل لا تجدي لتصفير عداد هزيمة. إنما ما لا يجدي أيضا فهو دوام المكابرة على الهزيمة نفسها. هذه نقطة لا يمكن استمرار القفز فوقها طول الوقت. عندما لا الدبلوماسية تجدي، ولا السلاح قادر على الرد على عام كامل من الاستهداف له، يكون هناك واقع مزدوج. وهذا الواقع المزدوج هو واقع هزيمة، لا ينفع حيالها خطاب "الانهزاميين" بتحويلها الى عرس تطهري وهمي من السلاح وغنائياته، إنما لا تنفع أيضا خطابيات "الانتصاروية الدائمة".
أن لا يكون لا الحزب ولا لبنان ككل قادرين على الاعتراف بأن هزيمة حصلت قبل عام، فهذه مكابرة تتحول يوما بعد يوم الى حمولة زائدة تثقل على كاهل البلد. يريد حزب الله الجمع لأطول فترة ممكنة بين الاحتفاظ بما يمكنه الاحتفاظ بسلاح، رغم الغارات اليومية، وبين "اللارد" المتواصل. أيضا، لأن الرد يزداد صعوبة، من بعد كل غارة. هذه وصفة غريبة بعض الشيء. وصفة لا يمكن الحفاظ عليها طويلا على أية حال. لكنها، وصفة لما هو "أكثر من أزمة" على مستوى الداخل اللبناني.
(القدس العربي)