وجهات نظر

كيف فعلها ترامب وأوقف الحرب؟!

لم يؤمن ترامب بحقوق الشعب الفلسطيني ولم يعتبره صاحب قضيةٍ مشروعةٍ يُعاني من ظلم واحتلال، وسعى إلى تهجيره من قطاع غزّة ودافع عن العدوان الإسرائيلي، وطالب نتنياهو حرفيًّا بأن يُنجز عمله (Job) بسرعةٍ ويجتثّ "حماس" ويحرّر الرهائن بالقوة، حتى اكتشف أنّه لم يحقّق أيّ من هذه الأهداف على مدار عامَيْن.

كيف فعلها ترامب وأوقف الحرب؟!

الحقيقة أنّ أبعد رجل عن الدفاع عن القضية الفلسطينية هو ترامب، بل إنّه يكره التيارات المدنية في أميركا والعالم الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، كما أنّ توجّهه السياسي يقع في أقصى اليمين ويختلف مع الانحياز "العاقل" الذي يُبديه الحزب الديموقراطي تجاه إسرائيل، لأنّه يؤمن بالقوة وليس بالحقّ والقانون والعدالة، وبالتالي كان انحيازه لإسرائيل فجًّا ومبرّرًا لجرائمها وداعمًا لها.

وعلى الرَّغم من أنّ هذه الصفات تقول إنّ ترامب آخر زعيم يمكن أن يحرص على إيقاف الحرب ووقف المأساة الإنسانية في غزّة، إلّا أنّه فعلها ووضع خطةً من 20 نقطة قبلتها إسرائيل و"حماس" وفرضت وقف إطلاق النار. في حين فشل الجميع في إيقافها بمَن فيهم سلفه بايدن الأقل انحيازًا لإسرائيل والمؤمن بالقانون وشرعية المؤسّسات الدولية، وأصبح السؤال: كيف يمكن لرئيسٍ لديه قناعة بأنّه من حقّ إسرائيل أن تُبيد أهل غزّة وتهجّرهم طالما تحارب الإرهاب، أن ينجح دون غيره في التحرّك الفعّال ويفرض وقف إطلاق النار؟.

مؤتمر "شرم الشيخ" بالنسبة لترامب فرصة استثنائية "للقطة"

لقد بدت الأفكار الضالّة والتدليس والكذب والاهتمام بـ"اللقطة والشكل والنرجسيّة الشديدة" تمثّل وصفات النجاح للكثيرين في هذه المرحلة، وتجعل أيّ شخص يؤمن بأهمية وقيمة أفكاره مهما كانت ضحالتها قادرًا على النجاح أكثر من أي زعيمٍ آخر لديه "أفكار سويّة" تنطلق من احترام مبادئ القانون الدولي والإنساني، ولكنّه لا يمتلك الإرادة نفسها والإلحاح على متابعة وتطبيق أفكاره فلا تتحقّق وتظلّ قيمًا نبيلةً هائمة.

الحقيقة أنّ ترامب هو نموذج لزعماء "اللقطة" و"الشو" (Show) والعموميات، والذي يكره الجدّية والمضمون والتفاصيل، وبالتالي فمؤتمر "شرم الشيخ" بالنسبة له هو فرصة استثنائية "للقطة"، ولكنّ رغبته في البناء على هذه اللقطة جعلته يتصرّف بشكلٍ مختلفٍ، لأنّها ستؤدّي به إلى مكسبٍ ذاتيّ إذ يرغب في أن يظهر أمام العالم باعتباره بطلًا للسلام يستحقّ أن ينال "جائزة نوبل".

إنّ عقلية الرئيس الأميركي ليست إيديولوجيةً، إنّما هي عقلية رجل "بيزنس وصفقات" أقرب للمطوّر العقاري، تقوم على علاقات قوة وأوراق ضغط يوزن بها الدول ويعرف حجمها وتأثيرها، ويتحيّن دائمًا الفرصة لعقد صفقةٍ مع حلفائه أو خصومه من أوكرانيا إلى الصين وكندا وحتى غزّة.

"العقاريون الجدد" يحبّون الدعاية والإعلان والبروباغندا أكثر من المضمون الجاد وخطط العمل

واللافت أنّ رجل الصفقات فعل فعلًا الشيء نفسه أثناء المفاوضات مع إيران قبل حرب الـ12 يومًا، حين سعى الأميركيون أولًا إلى صفقةٍ ولم يركّزوا على لبّ المشكلات العالقة بين البلدَيْن والمتعلّقة أساسًا بتخصيب اليورانيوم، فإيران أحضرت في المفاوضات ثلاثين خبيرًا فنّيًا في المجال النووي في مقابل اثنَيْن لأميركا، وبدا الأمر مستغرَبًا أنّ ما يخرج عن الإدارة الأميركية أقرب إلى الشعارات والكلام العام.

كلام ترامب عقب إعلان خطته لوقف حرب غزّة، وقبل وبعد مؤتمر "شرم الشيخ"، سار في الاتجاه نفسه الذي جرى مع إيران وغيرها، فهناك كلام عام عن لحظة تاريخية وعن انتهاء الحرب في غزّة والشرق الأوسط ونهاية الإرهاب وبداية عصر السلام. وشهدنا توقيع قادة كبار على خطة ترامب أمام عدسات التلفزيون، ويبقى التحدّي في التطبيق ووجود آلية تنفيذ عادلة وشفّافة.

عقلية ترامب تشبه "العقاريين الجدد" الذين تحكمهم عقلية الصفقة التجارية، ويروّجون لمنتجٍ، وبالتالي يركّزون على شكله وصورته ومظهره الخارجي أكثر من مضمونه، ويحبّون الدعاية والإعلان والبروباغندا أكثر من المضمون الجاد وخطط العمل بكلّ تعقيداتها وتفاصيلها، فقد وعد ترامب بإنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية من دون أن يعرف تعقيداتها وتفاصيلها وفشل.

خطة ترامب جاءت من شخص لا يؤمن بقيم العدل والسلام والقانون

إنّ خطة ترامب من أجل وقف الحرب في غزّة جاءت من شخص يكره غزّة، ولكنّ نرجسيّته ورغبته الجامحة في الحصول على جائزة "نوبل" ليصبح بطلًا عالميًا للسلام، جعلته يتمسّك بهذه الخطة وطالب "حماس" بالكثير من الالتزامات، وإسرائيل ببعضها.

سواء نجحت خطة ترامب وأنهت الحرب وفتحت أفقًا للتسوية السلمية أم فشلت، فإنّ مفارقاتها أنّها جاءت من شخصٍ لا يؤمن بقيم العدل والسلام والقانون، ومع ذلك تضمّنتها نقاط خطته، والسبب في ذلك أنّها ستحقّق له مصالح شخصية تضعه في مصاف القادة الكبار الذين أوقفوا حروبًا وصنعوا سلامًا.

لم يشتغل ترامب على المبدأ ولا على قيم القانون، إنّما أخلص بشدّةٍ لنفسه ولذاته وفعل مثل بعض زعماء العالم الذين عرفوا، كما يُقال في مصر، إن "تظبيط الشغل أهم من الشغل" فحقّقوا نجاحًا لأنّهم "ظبّطوا الشغل" الذي لم يحقّقه المخلصون وأصحاب المبادئ المؤمنون بالقانون والعدالة. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن