تواصل البورصة الأمريكية النزيف بعد تجدد المواجهات بوتيرة أشد عنفا بين الصين والولايات المتحدة، وخسرت كبريات شركات التكنولوجيا الأمريكية نحو 770 مليار دولار في أقل من أسبوع، بينما يعتري وزارة الحرب الأمريكية ومجمع الصناعات العسكرية القلق من قرار الصين تقييد صادراتها من المعادن النادرة، التي تحتكر إنتاجها ومعالجتها، ولا يمكن للصناعات العسكرية والالكترونية الاستغناء عنها، ولا توجد بدائل متاحة لها، لاحتكار الصين تقنيات وخبرات استخلاصها وتنقيتها من الشوائب، في مسيرة بدأت من خمسينيات القرن الماضي، ويحتاج امتلاك تلك التقنيات والمعارف سنوات طويلة، لا يمكن أن تتوقف أو تتأخر فيها صناعة التكنولوجيا والصناعات العسكرية في ذروة سباق محموم على الصدارة بين البلدين.
كانت الصين قد تداركت ثغرة تأخرها في إنتاج الرقائق الالكترونية (أشباه الموصلات)، وتمكنت من إحداث اختراقات في تلك الصناعة الإستراتيجية، رغم التضييق الذي مارسته الولايات المتحدة وحلفاؤها، لضمان التفوق على الصين المنطلقة بسرعة إلى مقدمة الاقتصاد العالمي، معززة بنحو 25% من مهندسي العالم، وثلث الاختراعات والبحوث، وملايين العمال المهرة، تمكنوا من جعل الصين مصنع العالم، الذي لا يتوقف عن التطور. ويبدو أن القرار الصيني بتقييد صادراتها من المعادن النادرة كان مفاجئا للإدارة الأمريكية، حتى إن أول رد فعل للرئيس الأمريكي ترامب كان قوله "إنه أمر لا يصدق"، "إن الصين تدمر صناعة واقتصاد العالم"، واتخذ قرارا فوريا برفع الرسوم الجمركية على واردات أمريكا من الصين بنسبة 100% إضافية.
أما الصين فأعلنت أن الرئيس الأمريكي هو من أشعل الحرب التجارية، وفرض حزمة من الرسوم الجمركية الباهظة علينا وباقي الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، وأن الولايات المتحدة استخدمت أدوات تتعارض مع حرية التجارة والقوانين الدولية في ضرب الشركات الصينية، ومنعت وصولها إلى الأسواق الأمريكية، منها شركات السيارات الكهربائية وهواوي، بل فرضت على حلفائها فرض قيود وعقوبات لعرقلة الاقتصاد الصيني.
الجولة الجديدة من المواجهة جاءت بمفاوضات كادت تنجح بين الصين والولايات المتحدة للوصول إلى تهدئة الحرب التجارية، لكن يبدو أن الولايات المتحدة رأت أن الوقت في صالح الصين، التي تتصدر معدلات النمو، وأصبحت الشريك التجاري الأول لمعظم دول العالم، وحققت فائضا تجاريا كبيرا، يقترب من تريليون دولار، لهذا قررت كبح التنين الصيني، وقيدت صادراتها من الرقائق الالكترونية للصين، بل هددت الشركات الأجنبية، التى يمكن أن تزود الصين بمعدات أو رقائق الكترونية تعزز فرصها فى المنافسة على صدارة التكنولوجيا، ومنها شركة هولندية تحتكر صناعة المعدات القادرة على إنتاج الرقائق الالكترونية الأكثر تطورا، واضطرت الصين إلى حشد استثماراتها وعلمائها وجذب الخبراء الأجانب، وتمكنت من إنتاج معظم ما يكفيها من الرقائق، ومضى القطار الصيني فائق السرعة في مسار التتويج على عرش الاقتصاد العالمي.
ومع تجدد المواجهات، وتمكن شركات صينية من مناطحة الشركات الأمريكية العملاقة في مجال التكنولوجيا والذكاء الإصطناعي، اتسعت المنافسة إلى الصناعات العسكرية، وتمكنت الصين من التفوق فى عدة مجالات، منها الصواريخ فرط الصوتية وحتى الطائرات الحربية والمسيرة، ويغير سباق التسلح المحموم من شكل وأدوات الحروب، لتثبت الصين أن صعودها لا يمكن وقفه.
كانت النخب السياسية الأمريكية قد اعتقدت أن التاريخ قد بلغ نهايته بتفوق الرأسمالية الأمريكية، واستمرار هيمنتها إلى الأبد بعد أن انفردت بالمقدمة، اعتمادا على تفوقها التكنولوجي وسيطرتها على المراكز المالية وتحكمها في التجارة العالمية، سواء بما راكمته من عناصر القوة الاقتصادية واحتكار التكنولوجيا أو بالقوة العسكرية إذا تطلب الأمر، وإذا بالصين تقلب موازين القوي، وتعتمد نهجا مختلفا يطرح السعي لعلاقات دولية أكثر عدالة، وتمخض هذا النهج بتشكيل منظمة البريكس، التي تضم أعضاء من مختلف القارات والثقافات، ليشكل هذا التجمع الدولى الجديد تحديا للهيمنة الغربية التي دامت نحو خمسة قرون، تسيدتها إسبانيا والبرتغال ثم بريطانيا وفرنسا، حتى انفردت بها الولايات المتحدة.
وأصبح العالم على حافة حرب عالمية تتجاوز في خطورتها وأدواتها ما سبقها من حربين عالميتين، وانبعثت أدخنة الحروب من مناطق عديدة، تمتد من فنزويلا إلى أوكرانيا والشرق الأوسط ووسط وشرق آسيا، ونقترب من كارثة الحرب التي يمكن أن تفنى البشرية، وتضع العالم أمام خيارين، إما المضي في الحروب بالوكالة حتى تتحول إلى حروب مباشرة بين الدول النووية، أو القبول بنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، والتسليم بأن التغيير هو الوحيد الذي لا يتغير، وأن التاريخ لا ينتهي طالما بقيت الحياة.
(الأهرام المصرية)