بعد ساعات على انتهاء احتفالية شرم الشيخ بـ"اتفاق غزّة" وتكريم دونالد ترامب على دوره في وقف النار، عاد جميع المشاركين إلى التفكير جدّياً، سواء في الصعوبات والعقبات أمام تثبيت الهدنة أم في الانتقال إلى المرحلة التالية لـ"خطة ترامب"، أو بالأخصّ في ما إذا كانت الخطة تمهّد فعلاً لـ"سلام دائم"، وهو ما يبدو موضع شكوك كبيرة. يرى ديبلوماسيون أوروبيون أن التوصّل إلى نهاية الحرب تطلّب من الدول العربية والإسلامية الكثير من "ضبط النفس" وصولاً إلى الموافقة على "نزع سلاح حماس" واستبعادها عن حكم غزّة، وتطلّب من دول غربية داعمة لإسرائيل في حربها أن تقرّ بتغيير طرأ على الرأي العام لديها فرفضت علناً الانحراف الإسرائيلي إلى الإبادة بالقتل والتجويع ثم تقدّمت إلى الاعتراف بـ"دولة فلسطين".
وإذا كانت "خطة ترامب" وضغوطه ومصالحه فرضت على إسرائيل إنهاء الحرب، فإن الدول العربية والإسلامية وكذلك الأوروبية لا تخفي استياءها من غموض "الخطة" وقصورها، إذ تفتقد "الأفق السياسي" المطلوب إذا كانت تهدف فعلاً إلى "سلام مستقبلي" في الشرق الأوسط. لعل أبلغ دليل أن السياسات الرئيسية لواشنطن وإسرائيل لم تخرج وليس متوقعاً أن تخرج من المربع الذي قبعت فيه خلال عامين كاملين، وطوال عقود سابقة. كان يمكن خطاب ترامب في الكنيست أن يكون رؤيوياً، بدل أن يغرق في الثرثرة تهرّباً من تحديد الأسس المهمة لبناء السلام. أما الإسرائيليون الذين حرص ترامب على دغدغة مشاعرهم، فكانوا ولا يزالون مسكونين بالهواجس الانتقامية، فقط لأنهم لم يحصلوا على "النصر" الذي يعني لهم ألا يبقى أي فلسطيني في فلسطين، أكان ينتمي إلى "حماس" أو إلى سواها.
لدى الوسطاء غير الأميركيين شكوك في جدّية التزام "اتفاق غزّة" من جانب إسرائيل، إذ أنها لم تتأخر في ارتكاب عشرات الخروق الدموية غير المبرّرة، والذريعة هي أن فلسطينيين عاديين وغير مسلحين أرادوا تفقّد بيوتهم وراء الخط الأصفر. ما يدعم هذه الشكوك أن حتى نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس أعلن أنه يتعين أن تمارس واشنطن "ضغطاً دائماً" لتأمين الاستقرار في قطاع غزة، وهو يزور إسرائيل اليوم مع المبعوث الخاص ستيف ويتكوف. أصبحت الإدارة الأميركية معنيةً الآن بنجاح مسعى رئيسها، لكن خطة الرئيس تحمل كل الألغام الكفيلة تفجيرها:
1- تجاهل "فلسطين" و"حلّ الدولتين" وعدم تأكيد الصلة بين قطاع غزّة والضفة الغربية من شأنهما أن يضعفا حماسة الدول التي دعمت "خطة ترامب"، بمقدار ما أنهما يحفّزان الإسرائيليين على المضي في "تقسيم" الضفة إلى مناطق تمهيداً لـ"ضمّ" أجزاء منها بحكم الأمر الواقع.
2- مشكلة الأمن داخل غزّة بعد انتهاء الحرب معروفة، لكن تعجّل إسرائيل بتحريك ميليشيات أنشأتها من بعض عصابات التهريب هدّد بمجازر أهلية، ما اضطرّ الجانب الأميركي إلى منح "حماس" غطاءً لضبط الوضع، ما أوقعه في تناقض، ما دامت "الخطّة" تقضي بـ"نزع سلاح" الحركة.
3- الاعتماد على "أمن حماس" لمدة طويلة يزيد من تعقيدات نزع سلاحها وتفكيك حكمها، ما ينعكس على مشاركة الدول في تطبيق مجمل "الخطة"، وأساساً يعاني تشكيل "قوة الاستقرار الدولية" صعوباتٍ بسبب عدم وضوح مرجعيتها وصلاحياتها وطبيعة عملها.
4- "مجلس السلام" يُفترض أن يوحي الثقة لأنه برئاسة ترامب الذي رشح الرئيس المصري لعضويته، غير أن هذه العضوية قد تشمل إسرائيليين معروفين أو مموّهين، كما أن دولاً أوروبية تنظر بارتياب إلى هذا المجلس، تحديداً لوجود توني بلير فيه، إذ لا يوثق به في بريطانيا نفسها ولا يمكن أن يُعهد إليه أي مهمة.
5- قضية إعادة الإعمار والاستثمار فيها مرشحة لإحداث الكثير من البلبلة بين الدول المعنية أو الراغبة، فالأرجح أن ترامب يعتبر "مجلس السلام" بمثابة "مجلس لإدارة الإعمار"، وهو يريد أن تكون لإسرائيل "حصة" في الورشة، كما أنه لم يُفصح ولم يُنقَل عنه أنه يدعم المشروع الذي أعدّته مصر وحظي بتأييد عربي - اسلامي، فضلاً عن تأييد الأوروبيين الذين يستشعرون استبعاداً لدورهم.
في أي حال، كان ترامب صريحاً وواضحاً في أنه وضع خطته على خلفية التوسّع في "الاتفاقات الإبراهيمية" التي بدأها قبل أن تصبح إسرائيل على ما هي عليه اليوم من عزلة ونبذ دوليين، ويحتاج تحسين سمعتها وصورتها إلى أكثر مما تقترحه "خطة ترامب" التي تحقّق عملياً أهداف حربها.
كما أن هدف "السلام الدائم" يتطلّب الانتقال إلى مسار ديبلوماسي جديد مع إيران، فمع انتهاء صلاحية الاتفاق النووي (2015) لم تعد هناك "رسمياً" أي قيود مفروضة على برنامجها الذي تعرّض لأضرار جسيمة لكن غير قاتلة. لا شك في أن معاودة واشنطن وإسرائيل طرح حلول ناقصة وغير عادلة للقضية الفلسطينية، أو منتهكة لسيادة لبنان وسوريا، ستترك الكثير من الثغرات أمام إيران لإنعاش دورها في المنطقة.
(الوطن السعودية)