بصمات

العَجْزُ السِّياسيُّ في أَشْكالِ المُمارَسَةِ الدّيموقْراطِيَّة!

يَظْهَرُ عَجْزُ السِّياسَةِ بِشَكْلٍ رَمْزيٍّ في الوَقْتِ الفَوْريِّ لِلْأَحْداثِ بِوَتائِرِها المُتَسارِعَةِ، وَهِيَ على تَشابُكٍ كَبيرٍ في العَلاقاتِ الدَّوْلِيَّةِ، وَفي الوِلادَةِ الفَوْضَوِيَّةِ لأَشْكالٍ مِنَ المُمارَسَةِ الدّيموقْراطِيَّةِ لا تَمْلِكُ القُدْرَةَ على مواجَهَةِ تَكاليفِ الحَياةِ، وَلا تَتَمَتَّعُ بِالقِيَمِ التي تَسْمَحُ بِالعَمَلِ بِفَعّالِيَّةٍ مِثْلَ القُوَى الأُخْرى في سِلْسِلَةِ الإجْراءاتِ وَالقَواعِدِ وَالمَعاييرِ، التي وَرَدَتْ في كِتابِ "السِّياسَةِ" عِنْدَ أَرِسْطو، لِجِهَةِ الرَّبْطِ بَيْنَ الأَخْلاقِ وَالسِّياسَةِ، وَحَيْثُ يَرى أَنَّ الهَدَفَ مِنَ السِّياسَةِ هُوَ تَحْقيقُ المَنْفَعَةِ العامَّةِ وَالسَّعادَةِ وَالرَّفاهِيَّةِ لِلْمواطِنين.

العَجْزُ السِّياسيُّ في أَشْكالِ المُمارَسَةِ الدّيموقْراطِيَّة!

واحِدَةٌ مِنَ التَّحَدِّياتِ الرَّئيسِيَّةِ التي تُواجِهُ الفاعِلينَ في الحَقْلِ السِّياسيِّ هِيَ تَزايُدُ الضُّغوطِ الاقْتِصادِيَّةِ وَالاجْتِماعِيَّةِ على المواطِنينَ، وَتَتَعَلَّقُ القَضِيَّةُ بِارْتِفاعِ أَسْعارِ السِّلَعِ وَالْخَدَماتِ، بِما في ذَلِكَ الإسْكانُ وَالرِّعايَةُ الصِّحِّيَّةُ وَالتَّعْليمُ، مِمّا يُؤَشِّرُ بِشَكْلٍ مُباشِرٍ إلى حَياةِ النّاسِ اليَوْمِيَّة. فَالمَنْطِقُ الثَّقافي لِلْمَذْهَبِ الرأسِماليِّ المُتَأَخِّرِ يُفيدُ التَّوَرُّطَ في الحُروبِ وَالأَزَماتِ، وَيَعْمَلُ على تَهْديمِ أَعْرافِ وَإيدْيولوجِيّاتِ القُوَى الثَّقافيةِ وَالاجْتِماعِيَّةِ التي سَيْطَرَتْ في القَرْنِ العِشْرينَ، لا سِيَّما مِنْها في الشَّرْقِ الأَوْسَطِ وَأَفْريقْيا. يَأْتي هَذا الشَّكْلُ رَفْضًا لِلْمَدينَةِ التّاريخِيَّةِ، أَوْ الطَّبيعَةِ الخاصَّةِ في العَلاقَةِ بَيْنَ الغَرْبِ وَالصّينِ، وَمُسْتَقْبَلِ الحَيَوِيَّةِ المُتَجَدِّدَةِ في عالَمِ الجَنوبِ، وَاللّاحَسْمِ في المَفْهومِ المُشَوَّهِ لِلدَّوْلَةِ القائِمَةِ على هَرَمِيَّةٍ تُعْلِنُ انْفِصالَها عَنِ الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ، وَرَفْضِها المُجْتَمعِ الإِنْسانِيَّ في مواجَهَةِ حالاتِ الطَّوارِئِ الانْسانِيَّة.

غَيْرَ أَنَّ هَذا يُبَرْهِنُ على أَداءٍ ساذَجٍ سِياسِيًّا، بَلْ مُدَمِّرٍ اجْتِماعِيًّا، ما يَجْعَلُ أَميرْكا دَوْلَةً عَظيمَةً، لَكِنْ مَيِّتَةً، تَقومُ على الاسْتِغْلالِ التِّجاريِّ الواضِحِ وَالتَّقْليلِ مِنَ المُثُلِ العُلْيا، وَما يُبْطِلُ أَهْدافَ وَنَجاحاتِ الحَداثَةِ العالَمِيَّة. فَأَهْلُ السِّياسَةِ مُسْتَقِلّونَ مِنْ دونِ اسْتِشْرافِ المُسْتَقْبَلِ في سِياسَةٍ مُحَافِظَةٍ وَسِياسَةٍ يَدْفَعُها كُلُّ هَذا التَّوَتُّرُ الحُدودِيُّ، وَالتَّوَرُّطُ وَالاخْتِلافُ وَالتَّناقُضُ مع بَعْضِ المَرْجِعِيَّةِ الذّاتِيَّةِ، التَّهَكُّمُ، الغُموضُ وَالمُحاكاةُ السّاخِرَةُ لِهُمومِ وَمآسي العالَم. فيما تَعْني سِياسَةُ الجَميعِ المَسْؤولِيَّةَ وَالتَّواضُعَ مِنْ دونِ تَمَيُّزاتٍ بَدائِيَّةٍ، لِدَرَجَةٍ يَظُنُّ الرَّئيسُ الأَميرْكِيُّ دونالد تْرامْب أَنَّهُ الشَّخْصُ الحَقيقِيُّ الوَحيدُ هُنا في العالَمِ، وَبِالتّالي الشَّخْصِيّاتُ الأُخْرى مَوْجودَةٌ في الخُرافَةِ التّاريخِيَّة.

المطلوب الإحساس بأهمية الاقتصاد الاجتماعي والتضامني لتحقيق الاستقرار في المجتمعات

في العالَمِ العَرَبيِّ، تَتَجَلَّى أَهَمِّيَّةُ التَّحْليلِ المُقارَنِ بِالضَّغْطِ في إِقْرارِ البِناءِ اللّامُتَكافِئِ لِلْمَرْجِعِيّاتِ الجَماعِيَّة. وَسَيَكونُ مِنْ بَابِ التَّعَسُّفِ إِنْكارُ عَلاقَةِ ابْنِ خَلْدونَ مع الفِكْرَةِ المُعاصِرَةِ، التي تَتَبَنّى أَهَمِّيَّةَ التَّضامُنِ الاجْتِماعيِّ داخِلَ البُنْياتِ المُخْتَلِفَةِ، وَبَيْنَ بِناءِ الدَّوْلَةِ وَتَفْريدِ العَلاقاتِ الدَّوْلِيَّةِ وَالفَرْدِيَّةِ التي تُمارَسُ وَحْدَها وَبِشَكْلٍ تامٍّ مع قَواعِدِ السّوسْيولوجْيا "الفيبِرِيَّةِ" في الغَرْب. ما يَتَطَلَّبُ إعادَةَ بِناءِ اسْتْراتيجِيّاتِ الفاعِلينَ مِنْ دونِ التَّناقُضِ مع الاحالَةِ إلى التّارِيخِ أَوِ الأَصالَةِ الثَّقافِيَّةِ، بَلْ على العَكْسِ تُصْبِحُ السِّياسَةُ وَثيقَةَ الصِّلَةِ بِهِما في نَماذِجِ الفِعْلِ، وَابْتِكارِ ما هُوَ سِياسِيٌّ في تَحْليلِ الأَوْضاعِ الميكْرو وَالماكْروسوسْيولوجِيَّةِ، التي تُعيقُ تَقَدُّمَ المُجْتَمَعاتِ وَعَمَلِيّاتِ التَّحَوُّلِ وَالْأَنْماطِ الشَّعْبية. كَما لَوْ أَنَّها أَنْظِمَةٌ أَمْنِيَّةٌ تَقِفُ عِنْدَ نِهايَةِ العَصْرِ الوَسيطِ، لِجِهَةِ الفاعِلينَ وَالمَمَرّاتِ الأُسَرِيَّةِ في تَكْوينِ السُّلْطَةِ وَفي هُوِّيَتِها وَنَمَطِ اشْتِغَالِها.

إِنَّ الخِياراتِ القاسِيَةَ تَتَطَلَّبُ اسْتِجابَةً سِياسِيَّةً فَعّالَةً تَهْدِفُ إلى وَقْفِ أَشْكالِ الحُروبِ وَالنِّزاعاتِ كافَّةً مِنْ جِهَةٍ، وَتَحْسينِ القُدْرَةِ على تَحَمُّلِ التَّكاليفِ وَتَعْزيزِ الاقْتِصاداتِ بِغَيْرِ الطُّرُقِ التّْرامْبِيَّةِ الأَميرْكيَّةِ المُخْتَصَرَةِ، التي لا تَكْتَسِبُ المِصْداقِيَّةَ في إِنْهاءِ الأَزَماتِ، وَتُرَوِّجُ لِنَوْعٍ جَدِيدٍ مِنْ "دِيموقْراطِيَّةِ السَّطْوِ" بَعْدَ "دِيموقْراطِيَّةِ السّوقِ" في النِّظامِ الرَّأْسِماليِّ التَّقْليديِّ مِنْ جِهَةٍ ثَانِيَة. فيما المَطْلوبُ الإحْساسُ بِأَهَمِّيَّةِ الاقْتِصادِ الاجْتِماعيِّ وَالتَّضامُنيِّ لِتَحْقيقِ الرَّفاهِيَّةِ وَالاسْتِقْرارِ في المُجْتَمَعاتِ، مِمّا يَعْكِسُ قيمَةَ التَّعاوُنِ وَالتَّواصُلِ في السِّياساتِ وَالقَوانينِ المالِيَّةِ وَالرُّسومِ الجُمْرُكِيَّةِ وَتَمْويلِ الصَّناديقِ وَالضَّمانِ الاجْتِماعيِّ، لا سِيَّما في غِيابِ الأَغْلَبِيَّةِ في البَرْلَماناتِ الوَطَنِيَّةِ، وَتَزايُدِ الامْتِناعِ عَنِ التَّصْويتِ الانْتِخابيِّ مع الحاجَةِ إلى ثِقَةِ النّاخِبينَ الضّائِعينَ في مَناطِقِهِمْ لِأَسْبابٍ حَياتِيَّة.

يُمْكِنُ لِلْمَرْءِ أَلّا يَشُكَّ في قُدْرَةِ الرَّئيسِ الأَميرْكيِّ دونالد تْرامْب على التَّوَصُّلِ إلى تَسْوِياتٍ، لَكِنَّ المُشْكِلَةَ أَعْمَقُ وَأَقْدَم. فَمُنْذُ عُقودٍ، لَمْ تَسْتَطِعِ السِّياسَةُ، أَوْ لَمْ تَتَمَكَّنْ، أَوْ لَمْ تَرْغَبْ في وَضْعِ النِّظامِ في حِساباتِ المُجْتَمَعاتِ المَفْتوحَةِ وَفي قَوانينِها الدَّوْلِيَّة. فَتَتَعَدَّدُ العَقَباتُ أَمامَ عَمَلِ السُّلْطاتِ العامَّةِ، مادِّيَّةً، قانونِيَّةً، دِيبْلوماسِيَّةً، سِياسِيَّةً، إِعْلامِيَّةً، اجْتِماعِيَّةً وَنَفْسِيَّة.

أَصْبَحَ الوَقْتُ السِّياسِيُّ قَصيرًا جِدًّا، سَريعَ الزَّوالِ، وَأَصْبَحَ النِّقاشُ السِّياسِيُّ عاطِفِيًّا جِدًّا لِلْقِيامِ بِإِصْلاحاتٍ هَيْكَلِيَّة. لَقَدْ أَصْبَحَتِ السُّلْطَةُ السِّياسِيَّةُ غَيْرَ واثِقَةٍ جِدًّا مِنْ نَفْسِها لِمواجَهَةِ عَدَمِ الشَّعْبية. وَاعِيَةٌ، على الرَّغْمِ مِنْ مَظاهِرِها الكَبيرَةِ بِضيقِ هامِشِ مُناوَرَتِها، تُخْفي انْتِهاكاتِها مِنْ خِلالِ الإِنْكارِ وَالمَوْقِفِ، وَالْكَلامِ السِّحْريِّ وَالشَّعْبَويِّ وَالتَّدابيرِ الجُزْئِيَّة.

تَتَحَمَّلُ الخِياراتُ المُؤَسَّسِيَّةُ التي اتُّخِذَتْ على مَدى عُقودٍ جُزْءًا مِنْ عَجْزِ السِّياسَةِ عَنْ مُراجَعاتٍ دُسْتورِيَّةٍ تُضْعِفُ السُّلْطَةَ التَّنْفيذِيَّةَ مُقارَنَةً بِالسُّلْطاتِ الأُخْرى في تَحْويلاتٍ كَبيرَةٍ لِلصَّلاحِيّاتِ، بِما في ذَلِكَ السِّيادِيَّةُ عَبْرَ تَفْكيكِ الادارَةِ، انْتِشارِ قَواعِدَ أَساسِيَّةٍ وَإِجْرائِيَّةٍ تُعيقُ لَيْسَ فَقَطِ الأَفْرادَ وَالشَّرِكاتِ، وَلَكِنْ أَيْضًا عَمَلَ الدَّوْلَةِ وَالسُّلْطاتِ المَحَلِّيَّةِ، وَالحَدِّ مِنْ عَمَلِ وَصُعودِ السُّلْطَةِ القَضائِيَّةِ، وَالتَّفْكيكِ الجُزْئيِّ لِلْبَرْلَمانِيَّةِ المُعَقْلَنَةِ وَإِدْخالِ رَقابَةٍ دُسْتورِيَّةٍ لاحِقَة.

تستنتج المحاكم العليا من النصوص التي يقع على عاتقها تطبيقها مبادئ لم تكن موجودة فيها

أَصْبَحَتِ البَرْلَمانِيَّةُ المُعَقْلَنَةُ غَيْرَ ضَرورِيَّةٍ في عَصْرٍ مِنْ "واقِعِ الأَغْلَبِيَّةِ"، غالِبًا ما تُعْزى الأَسْبَابُ المُؤَسَّسِيَّةُ لِعَجْزِ السِّياسَةِ حِينَ تَسْعى إلى حَبْسِ نَفْسِها في قُيود. على سَبيلِ المِثالِ، تَمْنَعُ الجَمْعَ بَيْنَ مَناصِبَ عَديدَةٍ كُفُؤَةٍ وَبَيْنَ العَمَلِ البَرْلَمانيِّ، أَوْ تُلْزِمُ السُّلْطاتِ المَحَلِّيَّةَ بِإِجْراءاتٍ ثَقيلَةٍ، بيروقْراطِيَّةٍ لِعُقودِ العَمَلِ، وَتُلْزِمُها بِالْتِزاماتٍ اسْتِشارِيَّةٍ ثَقيلَةٍ، مِمّا يُوَلِّدُ الآثارَ السَّلْبِيَّةَ نَفْسَها بِاسْمِ النَّزَاهَة. إِنَّ قَبولَ السِّياسَةِ لِزَوالِها الخَاصِّ قَدْ يَكونُ أَحْيانًا ناتِجًا عَنِ "المازوشِيَّةِ" في تَنازُلِها عَنِ المَوادِّ وَالمُراجَعَةِ وَالمُحاسَبَة. وَهَذا يَزيدُ مِنَ العَجْزِ الطَّوْعِيّ. لَكِنَّ السِّياسَةَ لَيْسَتِ الوَحيدَةَ المَسْؤولَةَ عَنْ شَلَلِها. إِنَّ تَوْسيعَ الرَّقابَةِ القَضائِيَّةِ هو، بِالتأكيدِ في جُزْءٍ كَبيرٍ مِنْهُ، مِنْ عَمَلِ السِّياسَةِ، وَقَراراتُ المَجالِسِ الدُّسْتورِيَّةِ أَوِ المَحاكِمِ العُلْيا في مُراقَبَةِ تَوافُقِ القَوانِينِ لَيْسَ فَقَطْ مع نَصِّ الدُّسْتورِ، وَلَكِنْ أَيْضًا مع إِعْلانِ حُقوقِ الإِنْسانِ وَالمُواطِنِ وَالمَبادِئِ الأَساسِيَّةِ المُعْتَرَفِ بِها. بِالْإضافَةِ إلى ذَلِكَ، تَسْتَنْتِجُ المَحاكِمُ العُلْيا مِنَ النُّصوصِ التي يَقَعُ على عاتِقِها تَطْبيقُها مَبادِئَ لَمْ تَكُنْ مَوْجودَةً فيها، مِمّا يُنْتِجُ بِاسْتِمْرارٍ اجْتِهادًا يُؤَدّي إلى آخَرَ، أَوْ إِجْراءاتٍ مُوازِيَةً، أَوْ دَساتيرَ مُوازِيَةً، وَتُمارَسُ أَحْيانًا وِصَايَةُ القُضَاةِ على السِّياسيِّينَ لَيْسَ فَقَطْ على أَفْعالِهِمْ، وَلَكِنْ أَيْضًا على شَخْصِيّاتِهِم.

لَقَدْ زَادَتِ العُقوباتُ المَفْرُوضَةُ على الحَياةِ العامَّةِ بِشَكْلٍ كَبيرٍ على مَدى الثَّلاثينَ عامًا الماضِيَةَ، ما يَسْمَحُ لِقادَةٍ سِياسيِّينَ بِأَنْ يَكونَ لَدَيْهِمْ مَيْلٌ أَكْبَرُ في تَحْكيماتِهِمْ إلى تَقْليلِ المَخاطِرِ القانونِيَّةِ (الدُّسْتورِيَّةِ، الإدارِيَّةِ، الجِنائِيَّةِ) بَدَلًا مِنَ الاقْتِرابِ مِنَ المَصْلَحَةِ العامَّة. إِنَّهُ سوءُ فَهْم. هُوَ لَيْسَ في قُوَّةِ السِّياسَةِ، بَلْ في عَجْزِها عَنِ التَّأْثيرِ في مُجْرَياتِ الأُمور.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن