أظهرت التطورات الأخيرة في قطاع غزة، أن الوضع الراهن لا يزال ينطوي على مخاطر أمنية، رغم محاولات حماس ملء الفراغ الأمني في المناطق التي انسحب منها جيش الاحتلال. وجود واحتمال استمرار المخاطر الأمنية ينطوي على تهديد اتفاق وقف إطلاق النار، وربما يخلق ذرائع لإسرائيل لاستئناف الحرب. ومع أن نتنياهو وبن غفير والمتطرفين داخل الحكومة الإسرائيلية يحاولون استخدام الحوادث الأمنية المتفرقة، لمعاودة سياسة القتل، والتجويع وتخريب الاتفاق كما حدث في رفح خلال الأسبوع الماضي، فإن الرئيس الأمريكي وفريق العمل لتنفيذ الاتفاق بقيادة ويتكوف وكوشنير، رفضوا جميعا اتهامات نتنياهو لحماس بأنها المسؤول عن الانتهاكات، وطالبوا بتصحيح ردود الفعل الإسرائيلية، التي تضمنت تقييد دخول ووصول المساعدات الغذائية والاعتداءات على المدنيين، وضرورة فتح معبر رفح.
ومع ذلك فلا يكفي توجيه أصابع الاتهام إلى عصابات من المتمردين، الذين دربتهم إسرائيل ووفرت لهم السلاح لإثارة الفوضى في قطاع غزة، إذ من الضروري تأسيس الآليات التنظيمية الكفيلة بحسن تنفيذ الاتفاق ومراقبة وقف إطلاق النار، وحرية دخول المساعدات وفتح المعابر، وإقامة الهياكل الأمنية والإدارية اللازمة لعودة الحياة الطبيعية إلى قطاع غزة. لقد انتهت المرحلة الأولى تقريبا، ودخلت المرحلة الثانية نظريا حيز التنفيذ، من دون أن يتم إعداد هيكل السلطات الإدارية والأمنية اللازمة لإدارة الحياة اليومية بشكل طبيعي في غزة، وتوفير الشروط الضرورية لاستمرار وقف إطلاق النار. المهمة الكبرى التي ينتظرها الجميع بعد ذلك تتعلق بنزع سلاح حماس وجعل غزة كلها منطقة منزوعة السلاح، بعيدة عن العسكرة والتطرف، فكيف إذن يتحقق ذلك؟
حماس بين نزع السلاح ودورها الأمني
ينص الاتفاق على إقامة سلطة إدارية وأمنية وقوة دولية متعددة الجنسيات لضمان الاستقرار، تحت إشراف سلطة دولية يرأسها دونالد ترامب، تشرف على تنفيذ مهام الأمن والنظام، وضمان تنفيذ بنود الاتفاق إلى النهاية، كذلك فإن فكرة تقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن بشأن ترتيبات إنهاء الحرب لا تزال متعثرة، بل إن الإدارة الأمريكية قد تفضل، بناء على طلب إسرائيل، تغييب دور الأمم المتحدة تماما. هذا التأخر في بدء المرحلة الثانية، وعدم وضوح الموقف بالنسبة لمهام الإدارة اليومية ومسؤوليات حفظ الأمن، يخلق بقوة الأمر الواقع دورا أمنيا وإداريا تلعبه حماس، للحيلولة دون حدوث فوضى شاملة في القطاع يكون الفلسطينيون ضحية لها، خصوصا مع رفض إسرائيل دخول قوة تابعة للسلطة الفلسطينية.
وعلى ذلك فإن الدور الذي تقوم به حماس في تصفية الميليشيات المرتبطة بإسرائيل ونزع سلاحها ومحاكمة المتورطين في عمليات عسكرية غير شرعية، أو السطو على المساعدات الغذائية وسرقتها، والعمل على حفظ الأمن والنظام، ومنع نشوء حالة من الفوضى في المناطق السكنية، هو دور يتفق موضوعيا وإجرائيا مع نصوص الاتفاق وليس ضده. قد تكون هناك تجاوزات في تنفيذ المهمة، وهي تجاوزات يجب التحذير منها، لكن خطورتها تقل كثيرا عن خطورة انهيار الوضع الأمني، ونشوء حالة فوضى كاملة، كان نتنياهو قد خطط لها مع جهاز الشاباك وجيش الاحتلال ولجنة التنسيق الإسرائيلية في المناطق المحتلة COGAT.
هذا الدور الذي تقوم به حماس في الوقت الراهن، سيظل ضروريا حتى تكون هناك سلطة بديلة في غزة، تملأ الفراغ الأمني والإداري وتتولى مسؤوليات الإدارة المؤقتة إلى حين الاتفاق على الشكل النهائي للوضع السياسي الجديد في قطاع غزة. ومن ثم فقد نشأ تناقض عملي ومنطقي بين مهمة إنهاء الدور الأمني لحماس ونزع سلاحها ومهمة تطبيع الحياة اليومية في غزة أمنيا وإداريا. ومن الواضح أن هناك حالة من الضبابية بالنسبة لمسألة نزع سلاح حماس. حماس نفسها تقول إنها لن تسلم السلاح إلا إلى جهة فلسطينية شرعية، بينما السلطة الوطنية تدعوها للتخلي عن السلاح، من دون وضع آلية أو مشروع تنفيذي لذلك، وفي الوقت نفسه لم تطرح مجموعة ترامب أي خطة محددة لكيفية نزع سلاح حماس.
تجربة نزع سلاح الجيش الجمهوري الأيرلندي
جرى نزع سلاح الجيش الجمهوري الأيرلندي (IRA) كجزء من عملية السلام في أيرلندا الشمالية، التي كانت خطوة رئيسية لإنهاء عقود من الصراع العنيف بين القوات البريطانية والجيش الجمهوري الأيرلندى في أيرلندا الشمالية منذ أواخر الستينيات حتى 1998. وقد تمت عملية نزع السلاح في إطار روح للمصالحة التاريخية بين بريطانيا وخصومها الكاثوليك المسلحين تحت راية الجيش الجمهوري (آي آر أيه). من دون وجود تلك الروح لم يكن من الممكن التوصل إلى اتفاق. وفي إطار هذه الروح تمت خطة نزع السلاح، على أساس عدد من المبادئ الناظمة التي التزم بها الطرفان، الجيش الجمهوري وحكومة صاحبة الجلالة في لندن. المبدأ الأول يتمثل في وجود اتفاق سياسي ساعد على التوصل اليه وصياغته السيناتور جورج ميتشل هو ما يعرف باسم "اتفاقية الجمعة العظيمة – 1998".
هذه الاتفاقية كانت حجر الأساس في إنهاء الحرب وإقامة السلام. وقد ألزمت الاتفاقية جميع الأطراف، بما في ذلك الجماعات شبه العسكرية مثل الجيش الجمهوري الأيرلندي، باتباع الوسائل الديمقراطية والسلمية لحل النزاعات. وكان النص على الحق في المشاركة السياسية بمثابة "الجزرة" التي حصل عليها الجيش الجمهوري للموافقة على إلقاء السلاح وتسليمه وعدم العودة إلى استخدامه أو حتى مجرد التهديد بذلك. وبمقتضى الموافقة على نزع السلاح حصل تنظيم "شين فين" وهو الجناح السياسي للجيش الجمهوري الأيرلندي على حق خوض الانتخابات والمشاركة الكاملة، طبقا للنتائج، في كل المؤسسات السياسية في أيرلندا الشمالية. كما نص الاتفاق على نبذ استخدام القوة، أو التهديد باستخدامها للتأثير على النتائج السياسية. أما بالنسبة لعملية نزع السلاح نفسها، فقد تم تشكيل مجلس دولي مستقل (IICD) للإشراف عليها والتحقق من سلامة الإجراءات والمصداقية. ولم تتم عملية نزع سلاح الجيش الجمهوري الأيرلندي بين يوم وليلة، وإنما استغرقت عدة سنوات من 2001 إلى 2005، حتى أعلن المجلس الدولي المستقل لنزع السلاح أن الجيش الجمهوري الأيرلندي، تخلى عن جميع أسلحته بالكامل – بنادق ومتفجرات وذخيرة – بحضور رجال دين مستقلين ومراقبين دوليين. ولا يزال مبدأ نزع السلاح ساريا، ويمثل ركنا من أركان عملية السلام والحياة السياسية في أيرلندا الشمالية حتى اليوم.
وتقدم التجربة الأيرلندية دروسا مهمة يمكن أن تساعد على وضع إطار تنفيذي لنزع سلاح حماس. ويجب الاعتراف أولا بأن حماس حملت السلاح دفاعا عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، طريقا إلى التحرر الوطني ضد المحتل، ولم تحمله بوصفها عصابة إجرامية، أو ميليشيا متمردة. ومن ثم فإنها عندما تلقي السلاح فإن ذلك يجب أن يكون جزءا عضويا من خطة سياسية للوصول إلى تحقيق الحقوق السياسية الأساسية للشعب الفلسطيني، وليس مجرد وسيلة للتهدئة وحماية مصالح طرف (الاحتلال) على حساب الطرف الآخر/ المُعَرّض للإبادة، بل يجب الالتزام بمبدأ عدم استخدام السلاح على الطرفين. ومن الضروري تحديد نوعية الأسلحة والذخائر المشمولة بالتسليم، حتى تكون للعملية مصداقية كاملة، لأن من يملك سلاحا للدفاع الشخصي، سواء كان من المنتسبين إلى حماس، أو غيرها أو من المدنيين، لن يتطوع أبدا بتسليم سلاحه الشخصي، وسط ظروف تهدئة مؤقتة قد تستأنف بعدها الحرب.
هذا يعني أن نزع سلاح حماس يمكن أن يطبق فقط في المرحلة الحالية على الأسلحة الهجومية، التي قد تعتبرها إسرائيل تهديدا لها، مثل الصواريخ ومنصات إطلاقها والمدافع وطائرات الدرونز الهجومية والقنابل والمتفجرات. ويجب أن تضمن الشروط المسبقة لنزع سلاح حماس وقطاع غزة تشكيل لجنة دولية تكون مهمتها التحقق من نزع السلاح وتدقيقه، على غرار ما تم في اتفاقية نزع سلاح الجيش الجمهوري الأيرلندي. ومن الضروري التسليم بأن تنفيذ هذه العملية قد يستغرق فترة من الوقت ربما تصل إلى عدة سنوات.
فوق كل ذلك يجدر التأكيد على عدم معقولية نزع سلاح حماس، وأيضا حرمانها من المشاركة في العمل السياسي، لن تتعاون حماس مع أي جهة تلزمها بالتنازل عن السلاح والتنازل عن ممارسة السياسة في وقت واحد. وأظن أن حماس ستتعاون مع أجهزة الإدارة ونزع السلاح، في حال وجود ضمانات لها بالمشاركة في الانتخابات اللاحقة والمشاركة في الحياة الطبيعية بكل جوانبها وبلا قيود. الدور الذي تقوم به الآن حماس في إدارة الحياة اليومية وضبط الأمن العام والحيلولة دون انفجار حالة من الفوضى في قطاع غزة، سوف يستمر بقوة الأمر الواقع حتى قيام مؤسسات الإدارة والأمن وتحقيق الاستقرار التي نصت عليها خطة ترامب.
(القدس العربي)