حملت الموجة الحراكية - التي نعتبرها أولى، وهو وصف استخدمناه مبكرًا في أكثر من نص، نشر الأول في 31 يناير 2011 - أملًا بتجاوز الماضي بكل آلامه وهمومه. وإن استجابات مبدعة سيعمل جميع المواطنين - على اختلافهم ــ معًا؛ على صياغتها من أجل تفتيت التكلّس الذي لحق ببنى الدولة / المجتمع، في المنطقة العربية، وإحداث التغيير؛ المؤجّل، أو المعطّل، أو المتعثّر، أو غير المطلوب، أو كل ما سبق، من أجل السير قدمًا من أجل بناء دولة المواطنة الدستورية العصرية. ومن ثم كانت، حسب ما أشرنا مرة، "الحراكات" فرصة لاستعادة الحضور ولاكتساب الحقوق وتأسيس المواطنة "الفعل" قاعديًا بغير منحة من أحد.. المواطنة "الفعل" بالجميع وللجميع.
"الحراك" جسّد في "المخيال" العربي عمومًا والمسيحي خصوصًا مقدّمة لدورة نهوض عربي جديد
ولا شكّ أنّ "الحراكات" في انطلاقتها الأولى قد مثّلت حلمًا وأملًا للكثيرين خاصة هؤلاء الذي كانوا يشعرون بأنهم مهمّشون أو يعانون تمييزًا أو مستبعدون أو يتعرّضون لقهر لأسباب تتعلق بالمكانة والثروة والجنس والدين واللون والمذهب.. إلخ.
وفيما يتعلق بالمسيحيين العرب، تحديدًا، يشير أحد الباحثين في دراسة حديثة إلى أنّ: "الكثير من المسيحيين.. كانوا يرابطون في مقدّمة الحراك، كائنًا ما كانت مواقف كنائسهم". دفع الموقف السابق، حسب أحدهم، إلى فتح أفق نحو "سبيل عربي جديد إلى الحداثة، يقوم على أساس من المُثُل العليا" تضاهي مُثُل النهضة. أي أنّ "الحراك" جسّد في "المخيال" العربي عمومًا والمسيحي خصوصًا مقدّمة لدورة نهوض عربي جديد.
وإذا ما استدعينا مسرح الأحداث، ورصدنا تفاعلاته سوف نتأكد من سلامة هذا المخيال ومشروعية التطلع مجددًا لنهضة جديدة. لمَ لا، وقد عكست ردود فعل المواطنين المسيحيين العرب حيال "الحراك" التراوح والتفاوت والتباين، شأنها شأن المواطنين المسلمين العرب داخل القطر الواحد أو على مدى الأقطار العربية ذات الأغلبيات المسلمة والأقليات المسيحية.
وهو أمر يعكس كيف أنّ التفاعل مع ديناميكيات المجال العام: السياسية / المدنية والاقتصادية/ الاجتماعية والثقافية؛ تحكمه - ماديًا وواقعيًا - المصالح. ما يفسّر التوافق أحيانًا والرفض في أحيان أخرى في ضوء ما تفرضه المصالح. ولعلّ الإطلالة التحليلية الدقيقة لردّة فعل المسيحيين لـ"الحراك" سوف تعكس فرزًا طبيعيًا للمصالح بين مؤيّد للحراك وبين معارض له. فرز، يسهل إدراكه في ضوء مشهدية الحضور الميداني الفاعل للمؤيدين من جهة، ومدونة التشكيك في دوافع الحراك والتخويف من تداعياته من قبل المعارضين من جهة أخرى. وسوف توجّه، إطلالة مدققة أخرى، النظر إلى تأخّر موقف المؤسسات الدينية المسيحية في حسم موقفها من "الحراكات" حيث انتقلت في ردود فعلها من: الترقّب، إلى القبول المشروط، فالتأييد.
ولعلّ أهمية الاستدعاء التاريخي السابق تكمن في الخيارات السياسية التي تنزع نحو الحداثة السياسية وتجسيد المواطنة بعيدًا عن الطائفية / الملية من جهة والأقلوية من جهة أخرى. كما تميّز بين حركية المسيحيين في المجال العام بصفتهم مواطنين وحركية المؤسسات الدينية/الكنائس وخياراتها السياسية وتحيّزاتها. ما اعتبره "الحراكيون"؛ مسيحيون ومسلمون، يصبّ في اتجاه الدولة الحديثة: دولة المواطنة؛ لا دولة الطوائف/الملل... هكذا كانت بدايات العقد: الحراك...
ولكن سرعان ما سار العقد في اتجاه السكون والتجميد، ذلك لأنّ على الجميع التعاضد ضد التيار الديني الذي عمد إلى الاستئثار بـ"الحراكات" وحده بعيدًا عن أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير الذين حلموا - ببساطة وبعيدًا عن أية أيديولوجيات - بتفتيت التكلّس التاريخي للدولة العربية وتفعيل المواطنة بأبعادها المجتمعية المتنوّعة.
المشكلة ليست بين "المسيحية والإسلام، ولا بين المسيحيين والمسلمين، وإنما بين الرجعيين والتحرريين"
ومع مرور الوقت، كُبّل الحراك بثلاثة قيود: الموجة الدينية ""العُنفية" الداعشية، وبالتدخلات الخارجية السافرة وغير المسبوقة منذ "سايكس - بيكو" التي استنفرت متلازمة "الجيوبوليتيكا - السوسيو إكونوميكا" لإعادة رسم خرائط جديدة للمنطقة ذات التنوع الإثني والديني والثقافي؛ وبالإخفاق التاريخي الاقتصادي. سكنت، إذن، النهضوية المحتملة، بفعل الحراك، بثالوثها: النضالي، والحداثي، والتنموي.
والمحصّلة، غاب الحراكيون ومن ضمنهم "المسيحيون العرب" الذين توحّدوا من أجل الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة والعيش. ومن ثم عاد الاحتقان والسجال الديني الرقمي والانقسام العمودي.
وبعد، أنّ الحديث عن المسيحيين العرب والمستقبل، لا يفتح الحديث عنهم فقط وإنما حسب قسطنطين زريق: "يفتح قضية العرب بكاملها وقضايا المستقبل بمجموعها". وذلك لأنّ المشكلة الأساسية عندما نتكلّم عن مسيحيي المنطقة ومستقبلهم ليست بين "المسيحية والإسلام، ولا بين المسيحيين والمسلمين بصفة مطلقة، وإنما بين الرجعيين والتحرريين، في هذا الجانب أو ذاك. وتتعقّد هذه المشكلة، ويسْوَدّ وجه المستقبل ويشتدّ خطره كلّما قويت قوى الرجعية في أحد الجانبين أو فيهما معًا. وعلى العكس تهون المشكلة ويخف الخطر ويزهو وجه المستقبل كلّما قويت التحررية في أحد الجانبين أو فيهما معًا، وكلّما تماسك التحرريون عبر الحواجز القائمة بينهم وتعاضدوا وتعاهدوا على النضال المشترك".
لقراءة الجزء الأول: المسيحيون العرب: قرن النهضة.. عقد الحراك.. وبعد! (2/1)
(خاص "عروبة 22")