صحافة

السودان وزور ادّعاءات ترامب

جيلبير الأشقر

المشاركة
السودان وزور ادّعاءات ترامب

مأساة عظيمة تجري في السودان وفي غربه على الأخص، في إقليمي دارفور وكردفان، كما كان متوقعاً منذ أن اتضح في العام الماضي منحى الحرب الدائرة بين جناحي الطغمة العسكرية التي أورثها عمر البشير للبلاد. والمأساة لا تني تتفاقم: فقد سقطت مدينة الفاشر في دارفور قبل بضعة أيام وشرعت "قوات الدعم السريع" ومن لفّ لفّها من المنحدرين من ميليشيات الجنجويد، التي ارتكبت الإبادة الجماعية في دارفور قبل عشرين عاماً، شرعت في ارتكاب أشنع المجازر بما ينذر بتشكيل حالة جديدة من الإبادة الجماعية في الإقليم.

وفي هذه الأثناء، مأساة أخرى ترتسم معالمها في جنوب كردفان حيث مدينتا كادوقلي، عاصمة الولاية، والدلنج تخضعان لحصار يشبه الذي تعرّضت له الفاشر حتى سقوطها قبل أيام. في كردفان، تنتمي القوى المهاجمة لـ"الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ الشمال"، جناح عبد العزيز الحلو، المتحالف مع "قوات الدعم السريع" التي يقودها محمد حمدان دقلو، الملقب بحميدتي. وفي الحالتين، في دارفور كما في كردفان، يتشكّل الطرف الآخر من "القوات المسلحة السودانية" بقيادة عبد الفتاح البرهان.

وكما هو معلوم، فإن طرفي الحرب الطاحنة الدائرة في السودان منذ سنتين وثمانية أشهر مدعومان خارجياً من أطراف شتى، أبرزها الإمارات العربية المتحدة المسانِدة لـ"قوات الدعم السريع" والنظام المصري الداعم لـ"القوات المسلحة السودانية". وإذ يصوّر قسم من الإعلام العالمي الحالة وكأن الأشرار فيها ممثلون بـ"قوات الدعم السريع" دون سواها، لا بدّ من التأكيد على المسؤولية العظمى التي تقع أيضاً على عبد الفتاح البرهان وقادة "القوات المسلحة السودانية"، الذين قاموا قبل أربعة أعوام، في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، بتنفيذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالمسار الديمقراطي الناجم عن الإطاحة بعمر البشير في عام 2019.

كما أن مسؤولية الإمارات المتحدة في دعم "قوات الدعم السريع"، المعروفة بانحدارها من جناة الإبادة الجماعية التي جرت قبل عشرين عاماً، يجب ألّا تستر مسؤولية داعمي "القوات المسلحة السودانية" في تسعير الحرب وتمديدها بدل الضغط بقوة من أجل إيقافها. أما المسؤولية الأكبر في هذا الصدد، فتقع على الولايات المتحدة الأمريكية التي تربطها علاقة وثيقة بالدول الإقليمية المتدخلة في حرب السودان وتحوز على نفوذ كبير لديها. والحال أن الإدارة الأمريكية السابقة، إدارة جو بايدن، لم تعر اهتماماً جدياً للمأساة السودانية، إذ طغى انشغالها بالمشاركة في حرب الإبادة التي خاضتها القوات المسلحة الإسرائيلية في قطاع غزة، واتكالها على معاونة القاهرة وأبو ظبي لها في الجانب السياسي من تلك الحرب.

أما إدارة دونالد ترامب، فهي أيضاً لا تريد إحراج أحد الطرفين العربيين اللذين تتكل عليهما في تدخلها في غزة وفي سياستها الإقليمية، كما يبدو أنها لم تجد بعد مشروعاً عقارياً أو منجمياً يبعثها على التدخل النشط في الساحة السودانية. فإن مستشار ترامب المختص بالقارة الأفريقية، مسعد بولس، وهو والد صهر ترامب الآخر (بعد جاريد كوشنر) صرّح قبل شهر في مقابلة أجرتها معه صحيفة "لو موند" الفرنسية، قائلاً: "إننا على اتصال مع الطرفين، الجيش وقوات الدعم السريع. والأولوية المطلقة هي الحصول على تقدم في إيصال المساعدة الإنسانية في حين يشكّل السودان اليوم أسوأ كارثة إنسانية في العالم، حتى ولو لم تحظ (هذه الكارثة) بالاهتمام الضروري".

وكأن الولايات المتحدة ليس لديها ما يلزم من أجل إيصال المساعدة الإنسانية إلى شعب السودان، بل من أجل إيقاف المجزرة، بينما يمنّن رئيسها على العالم كل يوم وساعة بقدرته على وقف الحروب وصنع السلام. والحقيقة أن ترامب لا يهتم بالسلام سوى عندما يجد فيه مصلحة اقتصادية شخصية وعائلية، ولا يتردد في شنّ الاعتداءات العسكرية عندما تنسجم مع مصلحته ومصلحة الإمبريالية الأمريكية التي يرأسها، مثلما فعل ضد إيران ويفعل اليوم ضد فينزويلا. والمصيبة أن تملّق العديد من حكومات العالم للرئيس الأمريكي وقصر نظر قسم هام من الإعلام العالمي ساهما في صنع أسطورة ترامب صانع السلام، التي سوف يسجلها المستقبل على أنها إحدى قمم الزور التاريخي.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن