من يحكم لبنان اليوم؟

من يحكم، ومن يتحكم – ومن إليه الاحتكام – في أوضاع لبنان حالياً؟ لجهة من يحكم، لا يعيش البلد فراغاً في رئاسة الجمهورية كما تكررت الحال مراراً. فما بين خريف العام 2007 ومطلع هذا العام المنتهي، أمضى البلد خمس سنوات ونيّف وسدّة الرئاسة فيه شاغرة. سلّم إميل لحود قصر بعبدا للفراغ. وكذا فعل ميشال سليمان من بعده. واستفحل الأمر بعد انتهاء ولاية ميشال عون. لم يحدث من تسلّم وتسليم للرئاسة اللبنانية منذ العام 1998!

الحقبة نفسها شهدت ما مجموعه تسع سنوات كاملة بقي خلالها البلد من دون حكومة قائمة الصلاحيات، واكتفي فيها بتصريف الأعمال من قبل الحكومات المستقيلة، هذا في مقابل التفنن بهرطقات "تشريع الضرورة" طالما أن البرلمان تُكفّ يده كسلطة تشريعية حين يتأخر عن انتخاب رئيس. مقارنةً بكل هذا يبدو الوضع المؤسسي اليوم أكثر امتلاء واستقراراً. هناك رئيس جمهورية. هناك حكومة. الاختلاف بين أسلوبي جوزف عون ونواف سلام استطاع تجاوز أكثر من مطب، كما حصل وقت التعارض في الرأي عندما توجّب تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان.

الرهان على أي الشخصين أكثر سلبية تجاه "حزب الله" تأرجح صعوداً وهبوطاً منذ عام. لكن، هل بالمستطاع القول أن أزمات الحكم المتتالية التي طبعت حياة "الجمهورية الثانية" أخلت الساحة الى انتظام في الحكم، ومأسسة، ودسترة؟ الشكل يوحي بشيء من هذا. الاستحقاق الانتخابي في العام المقبل هو محك لاختبار هذا الشكل. لكن، كل هذا لا يجيب على سؤال من يحكم لبنان؟ فمتى كانت السلطة الفعلية في هذا البلد بعد الحرب مضبوطة بالمؤسسات الدستورية؟ السلطة الفعلية قلما كانت لـ"الحكم". وإنما كانت للتحكم وسلطانه. كان التحكم لنظام الوصاية السوري، وبعده آل لحزب الله الى حد كبير. هذا بالاشتراك أو بالاشتباك مع مندوبي العواصم ذات المونة "الوصائية" على الوضع اللبناني.

عندما لا يكون من يحكم هو نفسه من يتحكم يُزاوَل النشاط الأخير دون حاجة ممأسسة لتحمل المسؤولية. ويرتد ذلك على من يحكم أيضا. فبما أنه لا يتحكم بما هو دستورياً من صلاحياته، أو تحت يديه، وبما أن "دستور ما بعد الطائف" ليس المسودة المثالية لتقنين الالتباس والاشتباه وتوضيح المعايير والآليات، يصير بإمكان من يستوزر ويسترئس أن يلقي باللائمة على سواه بحجة غموض الهوية الفعلية لمن يتولى السلطة الفعلية، أو بحجة أن من يتحكم باللعبة المؤسسية يمسك بمفاصلها من خارجها. ارتبط ذلك الى حد كبير بامتناع احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي، والجمع لسنوات كبيرة بين ثلاثية "لبنان بشعبه وجيشه ومقاومته" وبين الأمر الواقع المحتفي بذاته تحت شعار "المقاومة ليست بحاجة الى إجماع وطني".

المتحكم السوري كان بمستطاعه أن يشغل اللعبة المؤسسية بالاستثمار في الاستقطاب بين الرئاسات وبين القوى الراضية بالوصاية. حرصت الوصاية السورية في المقابل على توطيد ثنائية سلاحي الدولة اللبنانية ودويلة حزب الله في لبنان من دون أن تكون للحزب من حصة في الحكومات اللبنانية الى أن أزف موعد رحيل جيش الوصاية. حرص الحزب في المقابل حين سعيه للتحكم بالبلد الى الجمع بين المشاركة الحكومية وبين قيادة تحالفات متعددة طائفيا، لا سيما إبان تحالفه مع تيار الجنرال ميشال عون، وبين اشتراطه الإجماع والميثاقية حين يطيب له ذلك، والتفلت من كل مسلك مماثل حين يتعلق الموضوع بقرار الحرب والسلم ومسألة سلاحه.

لكن اليوم؟ بعد عام على حرب خريف 2024؟ وفي ظل عام كامل من الحرب الإسرائيلية المتواصلة من جانب واحد، من يحكم البلد فعلا؟ من يتحكم؟ من اليه الاحتكام؟ هل يجري الاحتكام الى مواد دستورية، الى قوانين، الى عقد اجتماعي، الى قانون دولي، الى "أهل الحل والربط" من أي نوع؟ لم يعد الحزب يتحكم بالوضع بنفس الدرجة التي كانت له. لكن الى أي درجة ما زال يتحكم؟ هل يتحكم أصلا في المقابل بما يقوله هو، وما يفعله هو؟ هل توحي خطابات أمينه العام نعيم قاسم بالتحكم الذاتي مثلا؟ هل توحي بالزعامة أو بغيابها؟ وبالرؤية أم بضبابيتها؟ فقبل أن يكون السؤال عما بقي للحزب من أسلحة ومخازن، وعن التشدد أو اللين في موقفه، وعن تعافيه أو ضموره، وجب الاستفهام، قبل ذلك، عن الرؤية، عن النظر، هل حزب الله يرى؟ وتجاوزا على الحزب، هل كل تلاوين الاجتماع السياسي ترى؟ أو كله عماء في عماء؟

الأمر نفسه بالنسبة الى السلطة المالية. المصارف ما زالت قادرة على التحكم الاعتراضي على أي سبيل لمساءلتها جديا عما فعلته، لكن هل ما زال لديها القوة للتحكم بالأوضاع المالية والاقتصادية؟ يفترض لا. من يشغل هذه المساحة الشاغرة؟ يظهر أنها لم تزل شاغرة. يبدو البلد أكثر من ذي قبل بكثير تحت التحكم الأمريكي، لكن هذا التحكم متضارب في اشاراته بين الوجوه الأمريكية المختلفة. هل لأنه يريد أن يصل الى لحظة يكون كل شيء فيها مشروطا في لبنان بتوقيع معاهدة سلام مع اسرائيل؟ هل لان الاساسي اليوم هو متابعة الوضع في سوريا، وربط لبنان بذلك كفرع على المسألة الأكبر؟ هناك شيء من هذا وذاك، لكن لا يزال هناك متسع للقول بأن من يحكم لبنان ويتحكم به ويحتكم اليه هو الى حد كبير اليوم، وحتى إشعار آخر: لا أحد. بلد معلقة السياسة فيه "حتى إشعار آخر" حتى ولو ارتفع بالاشتياق اليها الصخب.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن