فِي نيويورْك ــ القَلْبِ الَّذِي يَنْبِضُ فِي صَدْرِ الإِمْبَراطورِيَّةِ الأَميرْكيَّةِ الحَدِيثَةِ، وَمُخْتَبَرِ صُورَتِهَا أَمامَ العالَمِ، المَدينَةِ الَّتِي تَتَشابَكُ فيها المَصالِحُ الكُبْرَى بِرُموزِ العَوْلَمَةِ ــ يَقِفُ زُهْران مَمْداني على أَعْتابِ لَحْظَةٍ قَدْ تُغَيِّرُ المَعْنَى أَكْثَرَ مِمّا تُغَيِّرُ الأَشْخاص. شَابٌّ فِي مُنْتَصَفِ الثَّلَاثِينِيّاتِ، مِنْ أُصولٍ إِسْلامِيَّةٍ، وَعُضْوٌ فِي مُنَظَّمَةِ الِاشْتِراكِيّينَ الدّيموقْراطيّينَ الأَميرْكيّينَ، يَتَقَدَّمُ بِثَباتٍ لِيُصْبِحَ أَوَّلَ عُمْدَةٍ مُسْلِمٍ لِلْمَدينَةِ نَفْسِها الَّتِي شَهِدَتْ تَفْجِيراتِ الْحادِيَ عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبَرَ/أَيْلول، وَالَّتِي وُلِدَ فِيها تْرامْب نَفْسُه.
قَبْلَ عامٍ واحِدٍ فَقَطْ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي الحِزْبِ الدِّيموقْراطيِّ يَأْخُذُ تَرَشُّحَهُ على مَحْمَلِ الْجِدّ. بَدا في نَظَرِهِمْ مُغامِرًا سِياسِيًّا يَسْعَى إلى بَعْضِ الشُّهْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَوارَى في ظِلالِ اللُّعْبَةِ التَّقْليدِيَّة. لَكِنَّهُ، بِما امْتَلَكَهُ مِنْ تَنْظيمٍ ذَكيٍّ، وَقُدْرَةٍ على مُخاطَبَةِ جيلٍ أَنْهَكَتْهُ تَكالِيفُ الْحَياةِ وَانْكَسَرَ تَحْتَ أَعْباءِ الرّأْسِمالِيَّةِ المُتَوَحِّشَةِ، قَلَبَ الْمَوازِينَ تَمَاما.
فوز ممداني كان حصيلة تَحَوُّل عميق في أولويّات الأميركيين
وَمَعَ نِهَايَةِ أُكْتوبَرَ/تِشْرينَ الأَوَّلِ، تَصَدَّرَ اسْتِطْلاعاتِ الرَّأْيِ مُتَقَدِّمًا على أَنْدْرو كومو، حاكِمِ الوِلايَةِ السّابِقِ، وَالمُرَشَّحِ الْجُمْهورِيِّ كورْتِيس سليوا. لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُجَرَّدَ صُعودٍ انْتِخابِيٍّ، بَلْ ظاهِرَةٌ سِياسِيَّةٌ وَاجْتِماعِيَّةٌ تُعْلِنُ بِوُضوحٍ أَنَّ مَوْجَةً جَدِيدَةً تُعيدُ تَشْكيلَ وَعْيِ الأَميرْكيّينَ مِنَ الدّاخِلِ هَذِهِ الْمَرَّة.
لَمْ يَأْتِ فَوْزُ مَمْداني صُدْفَةً، بَلْ كانَ حَصِيلَةَ تَحَوُّلٍ عَميقٍ فِي أَوْلَوِيّاتِ الأَميرْكيّين. فَبَيْنَمَا انْشَغَلَ مُنَافِسوهُ بِالْحَديثِ عَنِ الأَمْنِ وَمُكافَحَةِ الجَريمَةِ، اخْتارَ هُوَ أَنْ يُواجِهَ الأَزْمَةَ الحَقيقيَّةَ: تَكاليفَ الحَيَاةِ في المَدِينَةِ الأَغْلَى على وَجْهِ الأَرْض.
بَرْنامَجُهُ الِانْتِخابِيُّ، الَّذِي تَعَهَّدَ فيهِ بِفَرْضِ ضَرائِبَ إِضافِيَّةٍ على الأَغْنِياءِ، وَرَفْعِ ضَريبَةِ الشَّرِكاتِ، وَتَوْفِيرِ مُواصَلاتٍ مَجّانِيَّةٍ، وَدَعْمِ السَّكَنِ وَالرِّعايَةِ المُبَكِّرَةِ لِلأَطْفالِ، لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ شِعاراتٍ يَسارِيَّةٍ، بَلْ تَجْسيدًا لِاحْتِجاجٍ اجْتِماعِيٍّ واسِعٍ ضِدَّ رَأْسِمالِيَّةِ نيويورْك ذاتِهَا، ضِدَّ المَدِينَةِ الَّتِي أَصْبَحَتْ رَمْزًا لِلثَّرْوَةِ غَيْرِ المَحْدودَةِ وَالفَقْرِ المُتَزايِدِ فِي آنٍ واحِد.
تَحَوَّلَ مَمْداني إلى رَمْزٍ سِياسيٍّ لِجيلٍ جَديدٍ يَرَى أَنَّ العَدالَةَ الِاجْتِماعِيَّةَ لَمْ تَعُدْ تَرَفًا يَسارِيًّا، بَلْ ضَرورَةً أَخْلاقِيَّةً لِاسْتِمْرارِ المَشْرُوعِ الأَميرْكيِّ نَفْسِه. وَمِنْ هُنَا جاءَ التَّرَدُّدُ فِي صُفوفِ الحِزْبِ الدِّيموقْراطيِّ تُجاهَهُ؛ فَالكِبارُ هُناكَ لا يَخْشَوْنَ خَسارَتَهُ بِقَدْرِ ما يَخْشَوْنَ المَعْنَى الَّذي يُجَسِّدُهُ، يَرَوْنَهُ أَزْمَةَ هُوِيَّةٍ داخِلَ الحِزْبِ أَكْثَرَ مِنْهُ مُرَشَّحًا تَقَدُّمِيًّا يُثِيرُ الْجَدَل. فَمَمْداني لَا يُنازِعُهُمْ مَقْعَدًا، بَلْ يُنازِعُهُمُ الْحَقَّ فِي تَعْرِيفِ أَميرْكا الجَديدَةِ، أَميرْكا ما بَعْدَ الهَيْمَنَةِ، وَمَا بَعْدَ الرَّأْسِمالِيَّةِ المُتَوَحِّشَةِ الَّتِي وَصَلَتْ إلى حُدودِها الْقُصْوَى.
تعود نيويورك لتكون ساحة الصّراع الرّمزيّ بين أميركا القديمة وأميركا الجديدة
في نيويورْك، تَبْدَأُ دائِمًا القِصَصُ الأَميرْكيَّةُ الْكُبْرَى. مِنْها انْطَلَقَتِ العَوْلَمَةُ، وَمِنْها وُلِدَتِ الرَّأْسِمالِيَّةُ المالِيَّةُ الحَديثَةُ، وَمِنْها أَيْضًا جاءَ الرَّدُّ الأَخْطَرُ على الإِمْبَراطوريَّةِ فِي الْحادِيَ عَشَرَ مِنْ سِبْتَمْبَرَ/أَيْلول. وَاليَوْمَ، تَعودُ المَدينَةُ ذاتُها لِتَكونَ ساحَةَ الصِّراعِ الرَّمْزيِّ بَيْنَ أَميرْكا القَديمَةِ وَأمِيرْكا الجَديدَةِ، بَيْنَ مَنْطِقِ القُوَّةِ وَمَنْطِقِ الضَّميرِ، بَيْنَ الْمالِ وَالْحُلْمِ، بَيْنَ "وول سْتْريت" وَوُجوهِ النّاسِ فِي مِتْرُو الأَنْفاق.
لَنْ يُبَدِّلَ فَوْزُ زُهْران مَمْداني وَجْهَ نيويورْك بَيْنَ لَيْلَةٍ وَضُحاهَا، لَكِنَّهُ سَيُبَدِّلُ اللُّغَةَ الَّتِي تَتَحَدَّثُ بِها الإِمْبَراطورِيَّةُ عن نَفْسِها، وَسَيُجْبِرُها على أَنْ تَرَى صورَتَها فِي مِرْآةٍ لَمْ تَعُدْ مُزَيَّفَة. فَحِينَ يَصْعَدُ إلى مَقْعَدِ العُمْدَةِ شَابٌّ مُسْلِمٌ اشْتِراكِيٌّ، يَتَحَدَّثُ بِاسْمِ المُهَمَّشينَ وَيَقِفُ فِي وَجْهِ المُؤَسَّسَةِ الْمالِيَّةِ وَالسّياسيَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَعْنِي أَنَّ التَّغْييرَ لَمْ يَعُدْ يَأْتِي مِنَ الْخارِجِ، بَلْ مِنْ داخِلِ الأَسْوارِ ذاتِها، مِنْ قَلْبِ الإِمْبَراطورِيَّةِ نَفْسِها.
هَذا الفَوْزُ لَا يُفَسَّرُ بِمَهارَتِهِ الِانْتِخابِيَّةِ وَحْدَها، بَلْ هُوَ انْعِكاسٌ لِتَحَوُّلٍ أَعْمَقَ يَتَصاعَدُ فِي المُجْتَمَعِ الأَميرْكيِّ: تَيّارِ التَّمَرُّدِ على الرَّأْسِمالِيَّةِ المُتَغَوِّلَةِ، وَعلى هَيْمَنَةِ المَالِ على السِّيَاسَةِ وَالعُقُولِ مَعا. لَقَدْ أَصْبَحَتْ نيويورْك، المَدِينَةُ الأَغْلَى على وَجْهِ الْأَرْضِ، نَموذَجًا صارِخًا لِعالَمٍ يُدارُ كَسِلْعَةٍ أَكْثَرَ مِمّا يُدارُ كَمَدِينَة. لَا يَسْكُنُها أَبْناؤُها، بَلْ تَتَحَكَّمُ فِيها رُؤوسُ الأَمْوالِ كَما لَوْ كانَتْ عَقارًا مَعْروضًا فِي مَزادٍ مَفْتوح.
وَقَدْ أَدْرَكَ مَمْداني أَنَّ هَذا الْجُرْحَ الِاجْتِماعِيَّ العَميقَ هُوَ نُقْطَةُ الِالْتِقاءِ الْوَحيدَةُ بَيْنَ اليَمينِ وَاليَسارِ، بَيْنَ الغَنيِّ وَالفَقيرِ، بَيْنَ المُواطِنِ الأَبْيَضِ وَالمُهاجِرِ المُلَوَّنِ. وَمن هُنا، جَاءَتْ حَمْلَتُهُ الِانْتِخابِيَّةُ بَسِيطَةً في لُغَتِها، لَكِنَّها عَمِيقَةٌ فِي رَمْزيَّتِها. لَمْ يَتَحَدَّثْ عَنْ "مُكافَحَةِ الجَريمَةِ" كَمَا فَعَلَ مُنافِسوهُ، بَلْ عَنْ مُكافَحَةِ الظُّلْمِ الِاجْتِماعِيّ. لَمْ يَعِدْ بِالمَزِيدِ مِنَ الشُّرْطَةِ، بَلْ بِالمَزِيدِ مِنَ الْكَرامَةِ.
مع ممداني بدا واضحًا أنّ المعركة لم تعُد بين الحزبين الكبيرين بل داخل كل منهما
وَلَمْ يَطْلُبْ مِنَ النّاخِبِينَ أَنْ يَخْتاروهُ لِأَنَّهُ "قادِرٌ على إِدارَةِ المَدِينَةِ"، بَلْ لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا يَسْتَحِقّونَ مَدينَةً يُمْكِنُهُمُ العَيْشُ فِيها. وَهَكَذا تَحَوَّلَ الخِطابُ مِنْ إِدارَةٍ تِقْنِيَّةٍ إلى دَعْوَةٍ أَخْلاقيَّةٍ، وَمِنْ حِساباتِ المَصالِحِ إلى لُغَةِ الضَّميرِ، فِي لَحْظَةٍ بَدَأَ فِيها الأَميرْكيّونَ يَشْعُرونَ بِأَنَّ ما يَحْتاجُ إلى إِصْلاحٍ لَيْسَ فَقَطِ النِّظامَ، بَلِ الرّوحَ الَّتِي يَقومُ عَلَيْها هَذا النِّظام.
وَهُوَ ما جَعَلَ الحِزْبَ الدِّيموقْراطيَّ، بِكُلِّ ثِقَلِهِ التَّقْليديِّ، يَقِفُ أَمامَ مَمْداني فِي حَيْرَةٍ لَمْ يَعْرِفْ مِثْلَها من قَبْلُ: هَلْ يُسانِدُهُ لِأَنَّهُ يُمَثِّلُ رُوحًا جَديدَةً تَبْعَثُ الأَمَلَ فِي حِزْبٍ شاخَ مُبَكِّرًا؟ أَمْ يَخْشاهُ لِأَنَّهُ يَهُزُّ الأُسُسَ الَّتِي قامَتْ عَلَيْها الدِّيموقْراطيَّةُ الأَميرْكيَّةُ مُنْذُ نِصْفِ قَرْن؟
لَقَدْ أَدْرَكَ قادَةُ الحِزْبِ أَنَّ مَمْداني لَيْسَ مُجَرَّدَ مُرَشَّحٍ تَقَدُّميٍّ، بَلْ عَلامَةٌ على أَزْمَةِ هُوِيَّةٍ داخِلَ المُؤَسَّسَةِ نَفْسِها؛ فَهُوَ ابْنُ الجيلِ الَّذِي لَمْ يَعُدْ يَرَى فِي الِاعْتِدالِ السِّياسيِّ "فَضيلَةً"، ولا في التَّحالُفِ مَعَ "وول سْتْريت" ضَمانًا لِلِاسْتِقْرار. وَمَعَهُ بَدا واضِحًا أَنَّ المَعْرَكَةَ لَمْ تَعُدْ بَيْنَ الحِزْبَيْنِ الكَبيرَيْنِ، بَلْ داخِلَ كُلٍّ مِنْهُما، بَيْنَ ماضٍ يُحاوِلُ الْبَقاءَ، وَمُسْتَقْبَلٍ بَدَأَ يَفْرِضُ لُغَتَهُ الجَديدَة.
(خاص "عروبة 22")

