انتخبت نيويورك، كبرى المدن الأمريكية ومركز الثقل الاقتصادي والأكاديمي والثقافي، زهران ممداني رئيساً لبلديّتها بعد مواجهة انتخابية أفضت إلى نسبة مشاركة هي من الأعلى في تاريخها، وحصل فيها ممداني على أكثر من 50 في المئة من الأصوات. وشبّه معلّقون كثر انتخاب المرشح المسلم ذي الأصول الهندية، المولود في يوغندا العام 1991 لوالدين أكاديمي وسينمائية معروفَين في مجالَيهما، والحاصل على الجنسية الأمريكية العام 2018، بانتخاب باراك أوباما العام 2008 لأسباب ترتبط بعمر الرجلين، وببعض التقاطعات اليسارية في برنامجيهما، وفي كونهما أول مسلم من جهة وأوّل أسود من جهة ثانية يفوزان بانتخابات كبرى في الولايات المتحدة، إضافة إلى نجاح كل منهما في خلق ماكينة انتخابية غير تقليدية وفي اعتماد أسلوب مخاطبة مباشر وحملة دعائية مختلفة عن المألوف في الحملات على هذا المستوى من الانتخابات.
لكن التدقيق في أمر التشابه يظهر رغم وجاهة بعض أوجهه تمايزات غير قليلة بين الشخصين وحملتيهما، بعضها عميق وبعضها قد يرتبط بالفارق المهم بين انتخابات وطنية عامة وانتخابات موضعية في مدينة لا تشبه في أي حال إلا نفسها. فممداني يساريّ صريح ومنتمٍ إلى تجمّع اشتراكي طالب بفرض الضرائب الإضافية على أصحاب المليارات لتمويل النقل العام المجاني وتحسين الخدمات التعليمية والطبية. وهو عمل لسنوات في جمعيات تدافع عن حقوق المطرودين من منازلهم، ويطالب بتجميد الإيجارات في مدينة لم تعد الطبقات الوسطى تستطيع البقاء فيها بعد استفحال الغلاء في دوائرها الخمس. وهو فوق ذلك مسلم يجاهر بإسلامه، شارك في حملات معادية للعنصرية ولعنف الشرطة ضد السود والملوّنين، وشكّلت فلسطين خلال سنوات دراسته الجامعية (تخصّص في الدراسات الأفريقية) كما في السنتين الأخيرتين أبرز محاور اهتمامه وأنشطته.
وما يميّزه بالتالي عن أوباما سياسياً ليس تموضعه الأكثر جذرية ويسارية فحسب، بل أيضاً تأكيده على هوّياته وانتماءاته والتزاماته كلّ ما جرى التهجّم عليه بسببها أو ظنّ خصومه أن تركيزهم عليها ينال منه ومن حظوظه بالفوز. أي أنه كلّما اتُهم بيساريّته أكّد أنه اشتراكي ولا يرى في الأمر ما يدعو للتبرير. وكلّما عُيّر بإسلامه، أكّد أنه مسلم وفخور بذلك. وكلّما قيل إنه من أصول مهاجرة أكّد أنه مهاجر وليس فقط من أصول مهاجرة، وأنه سيكافح لكي تبقى نيويورك مدينة للمهاجرين. وكلّما هوجم بسبب انحيازه للحق الفلسطيني أكّد أنه مع إنزال العقوبات بمرتكبي الجرائم الإسرائيليين وأنه سيأمر فوراً باعتقال بنيامين نتنياهو إن وضع قدميه في نيويورك. وهذه المواقف أو المقاربات لم تكن معهودة لدى باراك أوباما الذي آثر في أغلب المواجهات السياسية تدوير الزوايا وتسويغ الأمور على نحو بدا أحياناً شديد التسووية أو على الأقل حريصاً على "إستبليشمنت" حزب ديمقراطي لم يشأ، رغم إقدامه في العديد من الميادين، الخروج عن بعض موروثاته.
ولا شكّ أن نيويورك، المدينة الأكثر اختلاطاً وتنوّعاً في العالم، تتيح الحرية لممداني، في حين أن انتخابات وطنية ورئاسة بلد-قارة بكل ما فيه من تناقضات هو الولايات المتحدة الأمريكية لا تتيح الحرية ذاتها للرئيس المنتخب. على أن ممداني لم يكتف بتحدّي خصومه وبالانشقاق عن عدد من مواقف الحزب الديمقراطي الذي فاز بتمثيله بدعم من جناحه اليساري، بل تحدّى أيضاً التنميط الذي يمكن أن يسمَ مسلماً هندي الأصل يبحث عن تعبئة الناخبين المسلمين وذوي الأصول العربية من بين من يسعى إلى الاتكال على تصويتهم. فهو ركّز على التمييز بين معارضة إسرائيل وإدانة حربها الإبادية ورفض احتلالها ونظام الأبارتايد الذي تفرضه على الفلسطينيين وبين السلوكيات المعادية للسامية التي جرّمها على الدوام.
وحصد في تقديرات أولية أصوات ثلث الناخبين اليهود النيويوركيين، الذين عدّ بعضهم أن مواقفه الفلسطينية محقّة أو أنها بالنسبة إليهم لا تغيّر من دعمهم لمواقفه الداخلية، المرتبطة بحياتهم اليومية وبالقيم الاجتماعية التي يتبنّونها. وهو أكّد في برنامجه على دفاعه عن الحقّ في الإجهاض وعن حقوق المثليّين والمتحوّلين أو العابرين والعابرات جنسياً، وشارك في تجمّعاتهم الكبرى بعد استهدافهم من قبل الرئيس دونالد ترامب وإدارته. ونجح إضافة إلى حشده الفئات الشعبية في الحصول على تأييد شرائح واسعة من الطبقات الوسطى والميسورة، وعلى إبراز التقاطعات بين الأوساط النسوية والبيئوية والمعادية للعنصرية ولسياسات ترامب وجعلها تصبّ جميعها في حملته. وإن كانت المسألة الجيلية حاسمة في تفسير التعبئة الانتخابية لصالح ممداني إلا أنها لا تكفي لأنه لو لم يحصل على نسبة أصوات مقبولة بين المتقدّمين في السن لما نجح بالفارق الذي نجح فيه.
المقارنات التي لا تُجدي
أثار انتخاب زهران ممداني الكثير من النقاشات والسجالات في أوروبا حول ما يمثّله هذا الشاب الوافد إلى السياسة من الرياضة (مارس الكريكت لسنوات وانتسب إلى روابط نوادي ميتس للبيسبول وجيانتس لكرة القدم الأمريكية وأرسنال الإنكليزي لكرة القدم) والموسيقى (أدّى الراب في محطات المترو المشهورة). وادّعى أكثر من طرف يساري، خاصة في فرنسا، تماثلهم مع ما يجسّده رئيس بلدية نيويورك إجتماعياً أو برنامجياً. وذكّر كتّاب إنكليز أن لندن سبق وانتخبت المسلم (ذا الأصول الباكستانية) صادق خان رئيساً لبلديّتها، وأن استثنائية الحالة "الممدانية" هي بالتالي أمريكية وليست غربية عامة. غير أن معظم ما قيل في النقاشات والإشارات المذكورة انطلق من أخطاء في التشخيص وفي تهافت أصلي في جواز المقارنات.
ففي لندن، انتُخب خان بوصفه مرشّحاً عن حزب العمّال، متماهي الخطاب مع الحزب، محترف سياسة منذ سنوات طويلة، عضواً لمرتّين في مجلس العموم ووزيراً في حكومة غوردون براون. ورغم تأكيده على أصوله وقوله بتمسّكه بالعدالة الاجتماعية، إلا أنه بدا ويبدو جزءاً من المشهد السياسي بنخبه المعهودة والمتمرّسة، يحاذر اتّخاذ مواقف داخلية أو خارجية متمايزة عن مواقف حزبه، وتصعب بالتالي مقارنته بممداني كظاهرة غير حزبية بالمعنى التقليدي للكلمة وغير محترفة وغير منضبطة في إطار خطابي ومسلكي بالأطر النخبوية المؤسساتية.
أما في فرنسا فيبدو مجرّد السعي إلى المقارنات أمراً معدوم المقوّمات والمشروعية. ذلك أنه يستحيل تخيّل وصول مسلم أو أسود أو مهاجر مجنّس إلى مركز مهمّ، خاصة إن كان يُعلي شأن هوياته غير الفرنسية المجرّدة (نظرياً فقط) من كل أصل أو دين (غير مسيحي) أو لون. والمقارنة إذ تتناسى هذا الأمر وما يعبّر عنه اجتماعياً وثقافياً، تُسقط أيضاً الفارق بين الحالة الفرنسية والحالات الأوروبية عامة حيث التاريخ الاستعماري – وما رافقه من نقل عمالة واسترقاق ثم ما تبعه من هجرات – تسبّب بنهاية شبه الصفاء المسيحي الأبيض الذي يتباكى عليه اليمين المتطرّف اليوم.
في حين أن الولايات المتحدة تكوّنت على أساس تعاقب الهجرات الواسعة الهولندية والإنكليزية والروسية والاسكندنافية والألمانية والإيرلندية والإيطالية والهندية والصينية (والعربية) و"عادية" الإشارة إليها، وتقاطعها في مراحل أولى مع إرساء العبودية وجرائمها الشنيعة لدى نقل مئات ألوف الأفارقة إلى القارة الجديدة بعد إبادة معظم سكّانها الأصليين (الهنود-الأمريكيين). وهذا عنى ويعني أن أمريكا برمّتها هي بلاد تأسّست وقامت على أساس الهجرات، وجميع سكّانها هم من المهاجرين القدامى والجدد.
ويعني كذلك أن نيويورك بوّابة أمريكا الأولى أيام الهجرات الأوروبية، ومستقّر الباحثين من الهجرات اللاحقة عن عمل، هي المدينة-العالم التي لا مدينة أخرى، حتى في الساحل الغربي (أي في كاليفورنيا) تملك نفس خصائصها. ولا عجب من تفاخر أكثرية النيويوركيين بأصولهم، في حين ساد طويلاً في فرنسا ما يُشبه التجريم إن أُشير إلى الأصول بحجة الصهر الوطني والهوية الفرنسية العلمانية الجامعة. وحدها الوجهة الاقتصادية اليسارية لزهران ممداني يمكن مقارنتها بجزء من السائد فرنسياً منذ عقود طويلة، أو ببعض المُثار اليوم في ما خصّ محاولات فرض الضرائب الإضافية على الأشدّ ثراءً لتمويل الموازنات الاجتماعية.
ممداني هو حالة أمريكية ونيويوركية بحتة إذاً، يصعب تكرارها. والتحدّي الأكبر له اليوم بعد فوزه الانتخابي الباهر في حملة كان قوامها مئة ألف متطوّع بموازنة معتدلة واجهوا ماكينة انتخابية لخصمه الديمقراطي سابقاً أندرو كومو، دعمها أصحاب المليارات وتبنّت مواقف إسرائيلية، التحدّي الأكبر سيكون ترجمة وعوده إلى سياسات وإنجازات، إن لجهة النقل العام المجاني، أو لجهة الخدمات الصحية والتعليمية في الأحياء الطرفية، أو لجهة تجميد الإيجارات وتخفيض الأسعار في المدينة الأكثر جاذبية وإدهاشاً وتنوّعاً في عالمنا.
(القدس العربي)

