تُعَدُّ إِدارَةُ المَخاطِر المَصْرِفِيَّةِ الرَّكِيزَةَ الأَهَمَّ فِي بِنَاءِ نِظامٍ مالِيٍّ قادِرٍ على مُقاوَمَةِ الصَّدَماتِ وَحِمايَةِ أَمْوالِ المودِعِينَ، وَهِيَ أَيْضًا المَمَرُّ الإِلْزامِيُّ نَحْوَ جَذْبِ الِاسْتِثْماراتِ العابِرَةِ لِلحُدودِ، إِذْ لا يُمْكِنُ لِرَأْسِ المالِ الأَجْنَبِيِّ أَوِ الْعَرَبِيِّ الْبَيْنِيِّ أَنْ يَتَدَفَّقَ بِثِقَةٍ نَحْوَ مُؤَسَّساتٍ مَصْرِفِيَّةٍ لَا تَخْضَعُ لِقَواعِدِ إِفْصاحٍ وَمُحاسَبَةٍ وَرَقابَةٍ شَفّافَةٍ مُعْلَنَة. وَإِذا كانَتِ الأَزْمَةُ المالِيَّةُ العالَمِيَّةُ عامِ 2008 قَدْ كَشَفَتْ هَشاشَةَ النُّظُمِ المَصْرِفيَّةِ فِي أَكْثَرِ الِاقْتِصاداتِ تَقَدُّمًا، فَإِنَّهَا دَفَعَتِ المُجْتَمَعَ المَالِيَّ الدَّوْلِيَّ إلى تَطْويرِ حُزَمٍ مُتَتَابِعَةٍ مِنَ الإِصْلاحاتِ عُرِفَتْ بِمُقَرَّراتِ "بازِل"، تِلْكَ المُقَرَّراتُ الَّتِي بَدَأَتْ مُبَكِّرًا عامِ 1988 على خَلْفِيَّةِ أَزَماتِ الدُّيونِ فِي دُوَلِ أَميرْكا الجَنُوبِيَّةِ فِي سَبْعِينِيّاتِ وَثَمانِينِيّاتِ القَرْنِ الماضِي. وَقَدْ وَضَعَتْ تَحْدِيثاتُ تِلْكَ المُقَرَّراتِ أُطُرًا أَكْثَرَ صَرامَةً لِتَقْيِيمِ كِفايَةِ رَأْسِ المَالِ، وَمَخاطِر السّوقِ، وَالِائْتِمانِ، وَالسُّيولَةِ، وَمَخاطِر التَّشْغيلِ.
وَقَدْ تَبَنَّتْ بَعْضُ الدُّوَلِ العَرَبيَّةِ تِلْكَ المُقَرَّراتِ، بِنِسَبٍ مُتَفاوِتَةٍ، فَارْتَفَعَتْ مَعايِيرُ الإِفْصاحِ وَالحَوْكَمَةِ، وَبَدَأَتِ اخْتِبَارَاتُ الضَّغْطِ المالِيِّ (Stress Testing) تُجْرَى بِشَكْلٍ دَوْرِيٍّ على المَصارِفِ الكُبْرَى، فِيما ظَلَّتْ دُوَلٌ عَرَبِيَّةٌ أُخْرَى مُتَأَخِّرَةً فِي التَّطْبيقِ لِأَسْبابٍ تَتَعَلَّقُ بِالْبِنْيَةِ الرَّقابِيَّةِ أَوْ هَشاشَةِ نُظُمِ الْإِفْصاح. وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الصّورَةَ الإِجْمالِيَّةَ تُشيرُ إلى تَقارُبٍ مُتَزايِدٍ فِي فَلْسَفَةِ إِدارَةِ المَخاطِر، وَلَوْ أَنَّ الْقَوَاعِدَ التَّفْصيلِيَّةَ لا تَزالُ مُتَفاوِتَةً من بَلَدٍ إلى آخَر، بِمَا يَحُدُّ من إِمْكانِيَّةِ بِناءِ سوقٍ مَصْرِفِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ مُوَحَّدَة.
أثبتت التجربة الأوروبية أنّ التنسيق لا يُضعف السّيادة الوطنيّة
تُبْرِزُ مُقَرَّراتُ "بازِل 3" الَّتِي أُقِرَّتْ عامَ 2010 أَهَمِّيَّةَ بِناءِ ما يُعْرَفُ بِـ"رَأْسِ المَالِ التَّحَوُّطِيِّ" وَتَطْبيقِ نِسَبِ سُيولَةٍ قَصيرَةٍ وَأُخْرَى طَويلَةِ الأَجَلِ، وَهِيَ أَدَواتٌ مُصَمَّمَةٌ لِضَمانِ اسْتِدامَةِ التَّمْوِيلِ فِي مُواجَهَةِ الأَزَمات. أَمّا المَرْحَلَةُ الأَحْدَثُ، الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا اصْطِلاحًا "بازِل 4" وَإِنْ كانَتْ تُمَثِّلُ فِي الواقِعِ حُزْمَةَ مُراجَعاتٍ لِبازِل 3، فَقَدْ جاءَتْ لِتَوْحيدِ نَماذِجِ قِياسِ الْمَخاطِر، وَتَقْليصِ التَّفاوُتِ بَيْنَ الْبُنوكِ فِي حِسابِ الأُصولِ المُرَجَّحَةِ بِالْمَخاطِر، إِضافَةً إلى رَفْعِ مَعاييرِ الإِفْصاحِ الرَّقَمِيِّ وَالتَّعامُلِ مَعَ المَخاطِر السّيبْرانِيَّةِ الَّتِي أَصْبَحَتْ تُهَدِّدُ تَوازُنَ الأَنْظِمَةِ المَصْرِفِيَّةِ العَالَمِيَّة.
هَذِهِ التَّطَوُّراتُ تَعْنِي أَنَّ المَعاييرَ الدَّوْلِيَّةَ لَمْ تَعُدْ مُجَرَّدَ إِرْشاداتٍ تَنْظيميَّةٍ، بَلْ صارَتْ أَساسًا لِتَقْييمِ الجَدارَةِ الِائْتِمانِيَّةِ لِلدُّوَلِ وَالْبُنُوكِ فِي آن. وَفِي هَذا السِّياقِ، يُصْبِحُ "تَوْحيدُ مَعايير إِدارَةِ المَخاطِر المَصْرِفِيَّةِ فِي العَالَمِ العَرَبِيِّ" ضَرُورَةً تَتَجاوَزُ البُعْدَ الفَنِّيَّ إلى البُعْدِ الِاسْتِثْمارِيِّ وَالِاسْتِراتِيجِيّ. فَحِينَ تَخْتَلِفُ القَواعِدُ الرَّقابِيَّةُ وَالإِفْصاحِيَّةُ من بَلَدٍ عَرَبِيٍّ إلى آخَر، تَضِيعُ مِيزَةُ "المِنْطَقَةِ الِاقْتِصادِيَّةِ المُشْتَرَكَةِ" وَتَتَعَطَّلُ حَرَكَةُ رُؤوسِ الأَمْوالِ، إِذْ يَضْطَرُّ المُسْتَثْمِرُ لِإِعَادَةِ تَقْييمِ مَخاطِر التَّشْغيلِ وَالِائْتِمانِ مَعَ كُلِّ حُدودٍ جَدِيدَةٍ يَعْبُرُها.
وَلَيْسَ الْمَقْصودُ مِنَ التَّوْحيدِ أَنْ يُفْرَضَ نَموذَجٌ رَقابِيٌّ مُوَحَّدٌ يَحُلُّ مَحَلَّ السُّلُطاتِ الوَطَنِيَّةِ، بَلْ أَنْ تُقَامَ "آلِيَّةُ تَنْسِيقٍ إِقْلِيمِيٍّ" تُشْبِهُ فِي بِنْيَتِهَا "الآلِيَّةَ الإِشْرافِيَّةَ المُوَحَّدَةَ" (SSM) فِي الِاتِّحَادِ الأُوروبِيِّ، الَّتِي أُنْشِئَتْ عَامَ 2014 لِتَوْحِيدِ الرَّقابَةِ على الْبُنوكِ الْكُبْرَى الْعامِلَةِ فِي منطَقَةِ اليورو تَحْتَ مِظَلَّةِ البَنْكِ المَرْكَزِيِّ الأُوروبِيّ. وَقَدْ أَثْبَتَتِ التَّجْرِبَةُ الأُوروبِيَّةُ أَنَّ التَّنْسِيقَ لا يُضْعِفُ السِّيادَةَ الْوَطَنِيَّةَ، بَلْ يَمْنَحُ الأَسْواقَ قَدْرًا أَعْلَى مِنَ الشَّفافِيَّةِ وَالثِّقَةِ، كَمَا يُسْهِمُ فِي تَسْهيلِ عَمَلِيّاتِ الِانْدِماجِ المَصْرِفيِّ وَالتَّمْويلِ المُشْتَرَكِ عَبْرَ الحُدُود.
التجربة العربيّة ينبغي أن تُبنى على "خريطة طريق مُتدرّجة" تُراعي اختلاف الجاهزيّة المؤسّسيّة والتشريعيّة بين الدول
على صَعيدٍ آخَرَ، أَظْهَرَتْ تَجْرِبَةُ الِاتِّحادِ الأوروبِيِّ أَيْضًا بَعْضَ الْمآخِذِ الَّتِي يَجْدُرُ بِالعَرَبِ تَفاديهَا؛ فَالتَّدَرُّجُ في التَّطْبيقِ لَمْ يَكُنْ كافِيًا، كَمَا أَدَّتِ الفَوارِقُ بَيْنَ الأَنْظِمَةِ القَانُونِيَّةِ وَالضَّرِيبِيَّةِ إلى صُعُوباتٍ فِي إِدارَةِ صَناديقِ الإِنْقاذِ أَوِ "آلِيَّةِ الحَلِّ المُوَحَّدَة". كَذَلِكَ، فَإِنَّ الِاخْتِلافَ فِي جَوْدَةِ الأُصولِ السِّياديَّةِ بَيْنَ الشَّمالِ وَالْجَنوبِ الأوروبيِّ جَعَلَ تَطْبيقَ القَواعِدِ الجَدِيدَةِ عِبْئًا على البُنوكِ العامِلَةِ فِي بِيئاتٍ أَقَلَّ نُمُوّا. لِذا، فَإِنَّ أَيَّ تَجْرِبَةٍ عَرَبِيَّةٍ مُماثِلَةٍ يَنْبَغِي أَنْ تُبْنَى على "خَريطَةِ طَريقٍ مُتَدَرِّجَةٍ" تُراعِي اخْتِلافَ الجاهِزِيَّةِ المُؤَسَّسيَّةِ وَالتَّشْريعِيَّةِ بَيْنَ الدُّوَل.
يُمْكِنُ أَنْ تَبْدَأَ المَرْحَلَةُ الأُولى بِتَنْسيقٍ فَنِّيٍّ من خِلالِ "صُنْدوقِ النَّقْدِ الْعَرَبيِّ" أَوْ "اتِّحادِ المَصارِفِ العَرَبِيَّةِ" لِتَوْحيدِ مَنْهَجِيَّةِ تَقْييمِ المَخاطِر وَإِجْراءِ اخْتِباراتِ إِجْهادٍ مُوَحَّدَةٍ، يَليها فِي المَرْحَلَةِ الثَّانِيَةِ الِاعْتِرافُ المُتَبادَلُ بِنَتائِجِ التَّقْييمَاتِ الرَّقابِيَّةِ بَيْنَ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ، وُصولًا فِي المَرْحَلَةِ الثّالِثَةِ إلى إِنْشاءِ "صُنْدوقٍ إِقْليميٍّ لِإِدارَةِ الأَزَماتِ المَصْرِفِيَّةِ" يُمَوَّلُ من مُساهَماتٍ احْتِرازِيَّةٍ لِلْبُنوكِ الْعامِلَةِ فِي الْمنطَقَةِ، بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّدَخُّلِ السَّرِيعِ لِإِعادَةِ هَيْكَلَةِ البُنوكِ المُتَعَثِّرَةِ من دُونِ اللُّجوءِ إلى الْمِيزانِيّاتِ الْحُكومِيَّة.
تَتَجَلَّى أَبْرَزُ التَّحَدِّياتِ أَمامَ هَذا المَشْروعِ في خُصوصِيَّةِ ما يُعْرَفُ بِالْبُنوكِ الْإِسْلامِيَّةِ، الَّتِي تُمَثِّلُ حِصَّةً مُعْتَبَرَةً مِنَ السّوقِ المَصْرِفِيَّةِ العَرَبِيَّة. فَالمَخاطِرُ الفِقْهِيَّةُ وَمَخَاطِرُ السُّيولَةِ تَخْتَلِفُ جَذْرِيًّا عَنْ مَثِيلاتِهَا فِي البُنوكِ التَّقْليديَّةِ، مَا يَسْتَوْجِبُ تَطْوِيرَ مَعايِيرَ تَكْميلِيَّةٍ تَتَناغَمُ مَعَ مُقَرَّراتِ "بازِل" من دُونِ الإِخْلالِ بِمَبادِئِ الشَّريعَةِ، وَهِيَ خُطْوَةٌ بَدَأَتْ فِعْلًا فِي ماليزِيا وَالبَحْرَيْنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَمْتَدَّ لِتُشَكِّلَ جُزْءًا مِنَ الإِطارِ العَرَبيِّ المُوَحَّدِ لِإِدارَةِ الْمَخَاطِر. وَهُنَا يَنْشَأُ أَيْضًا مَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِلافِ المَدارِسِ الفِقْهِيَّةِ وَمن ثَمَّ اللِّجَانِ الشَّرْعِيَّةِ المَعْنِيَّةِ بِالمُراجَعَةِ وَالحَوْكَمَةِ لِمُخْتَلِفِ الأُصولِ وَالْمُنْتَجاتِ الْمالِيَّة.
توحيد معايير إدارة المخاطرِ المصرفيّة في العالم العربي هو شرطٌ لبناء سوق ماليّة عربيّة مُتكاملة
على المَدَى المُتَوَسِّطِ، فَإِنَّ تَوْحيدَ المَعايِيرِ المَصْرِفِيَّةِ العَرَبِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يُحَقِّقَ فَوائِدَ ثَلاثًا: أُولًا، خَفْضُ تَكْلِفَةِ التَّمْويلِ عَبْرَ الحُدودِ؛ وَثانِيًا، تَحْسينُ تَصْنيفِ البُنوكِ العَرَبِيَّةِ لَدَى وَكالاتِ التَّصْنيفِ الدَّوْلِيَّةِ بِما يَرْفَعُ قُدْرَتَها على جَذْبِ رُؤوسِ أَمْوالٍ أَجْنَبِيَّةٍ؛ وَثالِثًا، تَعْزيزُ الثِّقَةِ فِي السّوقِ العَرَبِيَّةِ كَمنطَقَةٍ آمِنَةٍ لِلِاسْتِثْمارِ، خُصوصًا إِذا ما ارْتَبَطَتْ تِلْكَ الْخُطْوَةُ بِتَطْويرِ آلِيّاتِ تَسْوِيَةٍ إِقْليميَّةٍ وَنُظُمِ دَفْعٍ إِلِكْتُرُونِيَّةٍ مُشْتَرَكَة.
أَمّا المَخاطِرُ فَهِيَ لا تَقِلُّ أَهَمِّيَّةً، إِذْ قَدْ يُؤَدِّي التَّوْحِيدُ غَيْرُ المَدْروسِ إلى انْتِقالِ عَدْوَى الأَزَمَاتِ بَيْنَ الأَنْظِمَةِ المَصْرِفِيَّةِ العَرَبِيَّةِ، كَما أَنَّ ضَعْفَ الأُطُرِ الْقانونِيَّةِ فِي بَعْضِ الدُّوَلِ يَجْعَلُ مِنَ الصَّعْبِ تَطْبيقَ القَواعِدِ على نَحْوٍ مُتَوازِن. لِذَلِكَ، فَإِنَّ بِناءَ "بِنْيَةٍ تَشْريعيَّةٍ مُواتِيَةٍ" أَمْرٌ لا غِنَى عَنْهُ، خاصَّةً فِيما يَتَعَلَّقُ بِقَوانِينِ الإِفْلاسِ، وَحِمايَةِ المودِعينَ، وَالشَّفافِيَّةِ الضَّريبِيَّة.
وَفي الخِتامِ، فَإِنَّ الطَّريقَ إلى تَوْحِيدِ مَعايِير إِدارَةِ المَخاطِرِ المَصْرفِيَّةِ فِي العالَمِ العَرَبِيِّ لَيْسَ تَرَفًا تَنْظيمِيًّا، بَلْ هُوَ "شَرْطٌ لِبِناءِ سوقٍ مالِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ مُتَكامِلَةٍ" تُتيحُ تَدَفُّقَ الِاسْتِثْماراتِ البَيْنِيَّةِ وَتُقَلِّلُ الِاعْتِمادَ على التَّمْوِيلِ الأَجْنَبِيِّ القَصِيرِ الأَجَل.
(خاص "عروبة 22")

