اقتصاد ومال

العدالةُ الجبائيّة وتوزيعُ الثّروة

إِذا كانَ النِّظامُ الجِبائِيُّ من أَقْوَى رَكائِزِ السِّيَاساتِ الاِقْتِصادِيَّةِ الحَديثَةِ، فَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُحَقِّقُ عَدالَةَ تَوْزيعِ الدَّخْلِ وَيُمَوِّلُ الخَدَماتِ العامَّةَ، فَضْلًا عَنْ تَحْفيزِهِ لِلتَّنْمِيَةِ المُسْتَدامَةِ. غَيْرَ أَنَّ التَّجْرِبَةَ العَرَبِيَّةَ تَكْشِفُ أَنَّ الأَنْظِمَةَ الضَّريبيَّةَ في عَدَدٍ مِنَ البُلْدانِ العَرَبِيَّةِ ما زالَتْ مُكَبَّلَةً بِاِخْتِلالاتٍ هَيْكَلِيَّةٍ يُرافِقُها شَبَحُ اللّامُساواةِ الاِجْتِماعِيَّةِ وَاِحْتِكارِ الثَّرْوَةِ من طَرَفِ فِئاتٍ جِدِّ مَحْدودَةٍ، مِمّا اِنْعَكَسَ سَلْبًا على التَّنْمِيَةِ الاِقْتِصادِيَّةِ وَبِناءِ مَنْظومَةٍ أَخْلاقِيَّةٍ وَطَنِيَّةٍ تُكَرِّسُ روحَ المُواطَنَةِ وَالعَمَلِ الجَماعيِّ على خَلْقِ الثَّرْوَة.

العدالةُ الجبائيّة وتوزيعُ الثّروة

يُعْزَى هَذا الوَهَنُ الاِقْتِصادِيُّ إلى آفَةِ الخَياراتِ السّياسيَّةِ الَّتِي تَعْتَمِدُ على الإِيراداتِ الرَّيْعِيَّةِ في تَمْويلِ مِيزانِيّاتِ الدَّوْلَة. أَوَّلُ مَظاهِرِ هَذِهِ الاِخْتِلالاتِ هَيْمَنَةُ الضَّرائِبِ غَيْرِ المُباشِرَةِ على التَّمْويلِ العامِّ، مِثْلَ الرُّسومِ على الاِسْتِهْلاكِ وَالسِّلَعِ الأساس، مُقَابِلَ شُحِّ الضَّرائِبِ المُباشِرَةِ على الدَّخْلِ وَالثَّرْوَة. هَذا الواقِعُ المُزْدَوَجُ يَتَسَبَّبُ في إِثْقالِ العِبْءِ الأَكْبَرِ مِنَ الضَّرائِبِ على الشَّرائِحِ الوُسْطَى وَالدُّنْيا من أَفْرادِ المُجْتَمَعِ، بَيْنَما تَحْظَى الطَّبَقاتُ المَيْسورَةُ إِمّا بِإِعْفاءاتٍ ضَريبيَّةٍ أَوْ التَّهَرُّبِ من أَدائِها. الحَصيلَةُ، تَعْميقُ الفَجْوَةِ الاِقْتِصاديَّةِ وَالْاِجْتِماعِيَّةِ، وَتَحْويلُ الآلِيَّةِ الجِبائِيَّةِ من رافِعَةٍ لِبِناءِ الاِقْتِصادِ القَوْميِّ إلى آلِيَّةٍ مُضادَّةٍ لِتَكْريسِ عَدَمِ المُساواةِ وَنَبْذِ العَدالَةِ الاِقْتِصادِيَّة.

يستفحل الفقر وتزداد مؤَشّرات البطالة وانهيارِ أُسُس التنمية كنتيجة لاختلال ميزان الفرص الاقتصاديّة

لا بُدَّ مِنَ الإِشارَةِ إلى أَنَّ التَّدْبيرَ الضَّريبِيَّ في الكَثيرِ مِنَ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ لا يَقومُ على الكَفاءاتِ الَّتي يُحَرِّكُها الحِسُّ الوَطَنِيُّ ولا على الشَّفافِيَّةِ المَطْلوبَةِ لُزومًا، بِحَيْثُ يَسودُ غِيابُ البَياناتِ الدَّقيقَةِ وَاِنْتِشارُ الزَّبونِيَّةِ وَالمَحْسوبِيَّةِ وَضَعْفُ أَجْهِزَةِ الرَّقَابَة. الأَمْرُ الَّذِي يُكَبِّلُ قُدْرَةَ الدَّوْلَةِ على تَحْصيلِ المَوارِدِ الضَّريبيَّةِ وَفْقًا لِمَبْدأِ العَدالَةِ وَاِحْتِرامِ القانون. ما يَزيدُ من فَداحَةِ هَذِهِ الآفَةِ اِعْتِمادُ بَعْضِ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ على المَوارِدِ النَّفْطِيَّةِ وَالرَّيْعِيَّةِ، وَهَذا يَجْعَلُ النِّظامَ الضَّريبِيَّ يَفْتَقِدُ إلى التَّنَوُّعِ وَيَقْتَرِبُ إلى الهَشاشَةِ الَّتي تَحُدُّ من قُدْرَةِ الدَّوْلَةِ على فَرْضِ مَبْدأِ العَدالَةِ الضَّريبيَّة.

كَما تُؤَدِّي هَذِهِ الهَشاشَةُ، من مَنْظورٍ اِقْتِصاديٍّ وَاِجْتِماعيٍّ، إلى اِخْتِلالاتٍ بِنْيَوِيَّةٍ لَها تَأْثيراتٌ مُباشِرَةٌ على مُسْتَوَياتِ المَعيشَةِ وَالخَدَماتِ العامَّةِ، لِأَنَّ نَقْصَ الإِيراداتِ الضَّريبِيَّةِ يَحُدُّ من قُدْرَةِ الدَّوْلَةِ على تَلْبِيَةِ حاجاتِ الأَفْرادِ إلى الصِّحَّةِ وَالتَّعْليمِ وَالخَدَماتِ الأَساسِيَّةِ، في حِينِ تَتَراكَمُ الثَّرْوَةُ في يَدِ أَقَلِّيَّةٍ صَغيرَةٍ من رُؤوسِ الأَمْوالِ المُتَلاعِبَةِ بِالضَّرائِبِ، وَتَتَعَمَّقُ الفَجْوَةُ الاِقْتِصادِيَّةُ وَالْاِجْتِماعِيَّةُ بِاِعْتِبارِها سَبَبًا مُباشِرًا في اِخْتِلالِ مِيزانِ الفُرَصِ الاِقْتِصادِيَّة. نَتِيجَةً لِذَلِكَ، يَسْتَفْحِلُ الفَقْرُ وَتَزْدادُ مُؤَشِّراتُ البَطالَةِ وَاِنْهِيارِ أُسُسِ التَّنْمِيَة.

إِنَّ مُعالَجَةَ هَذِهِ الآفَةِ في السِّياقِ العَرَبيِّ لا تَكْفي بِتَعْديلِ بَعْضِ المُعَدَّلاتِ الضَّريبيَّةِ أَوْ سَنِّ قَوانِينَ جَديدَةٍ، بَلْ بِإِعادَةِ بِناءِ مَنْظومَةٍ جِبائيَّةٍ على أُسُسِ العَدالَةِ وَالنَّجاعَةِ وَالشَّفافِيَّة. وَيَعْنِي ذَلِكَ الاِنْتِقالَ إلى نَموذَجٍ يَعْتَمِدُ على الضَّرائِبِ المَباشِرَةِ التَّصاعُديَّةِ، الَّتِي تَرْبِطُ العِبْءَ الضَّريبِيَّ بِالقُدْرَةِ الحَقيقِيَّةِ على المُساهَمَة. كَما يَنْبَغي تَرْشيدُ الأَجْهِزَةِ الإِدارِيَّةِ لِلْحَدِّ مِنَ التَّهَرُّبِ الضَّريبيِّ وَتَطْويرُ نُظُمِ مَعْلوماتٍ مالِيَّةٍ دَقيقَةٍ مَصْحوبَةٍ بِتَعْزيزِ الرَّقابَةِ المُسْتَقِلَّةِ لِلْمالِيَّةِ العامَّةِ وَفْقًا لِقاعِدَةِ سِيادَةِ القانون.

تبنِّي العدالة الجبائيّة يتطلَّب إرادة إصلاحيّة ورؤية حوكمية وربط السّياسة الضّريبيّة بسياسات تنمويّة إنتاجيّة

هُنَا تَحْسُنُ الاِسْتِفادَةُ من تَجْرِبَةِ كوريا الجَنوبِيَّةِ، الَّتِي اِعْتَمَدَتْ مُنْذُ سَبْعينِيَّاتِ القَرْنِ الماضي سِياسَةً ضَريبِيَّةً لِصالِحِ الطَّبَقَةِ الوُسْطَى وَتَوْسيعِ قَاعِدَتِها الاِجْتِماعِيَّةِ، مُرْفَقَةً بِنِظامٍ ضَريبيٍّ تَصاعُديٍّ صارِمٍ على الدَّخْلِ وَالثَّرْوَةِ، وَتَقْليصِ الضَّرائِبِ غَيْرِ المُباشِرَةِ الَّتِي تُثْقِلُ كاهِلَ الفِئاتِ الضَّعيفَة. وكانَتْ هَذِهِ الإِجْراءاتُ الإِصْلاحِيَّةُ مُصاحِبَةً لِلْاِسْتِثْمارِ في التَّعْليمِ وَالصِّناعَةِ وَالبَحْثِ العِلْميِّ، أَفْضَتْ إلى دِينامِيَّةٍ إِنْتاجِيَّةٍ سَرَّعَتْ مِنَ النُّمُوِّ الاِقْتِصاديِّ وَالتَّحْسينِ المَلْموسِ في تَوْزيعِ الدَّخْل.

إِنَّ تَبَنِّيَ العَدالَةِ الجِبائِيَّةِ في البُلْدانِ العَرَبِيَّةِ لَيْسَ مَسْأَلَةً تِقْنِيَّةً فَقَطْ، بَلْ إِنَّهُ اِخْتِيارٌ سِياسِيٌّ يَتَطَلَّبُ إِرادَةً إِصْلاحِيَّةً وَرُؤْيَةً حَوْكَمِيَّةً في الإِدارَةِ العُمومِيَّةِ، وَرَبْطَ السِّياسَةِ الضَّريبِيَّةِ بِسِياساتٍ تَنْمَوِيَّةٍ إِنْتاجِيَّة. وَأَخِيرًا، لا بُدَّ مِنَ التَّأْكيدِ على أَنَّ إِنْجاحَ مُهِمَّةِ العَدالَةِ الجِبائِيَّةِ يَظَلُّ رَهِينًا بِفَلْسَفَةِ الدَّوْلَةِ تُجاهَ تَوْزيعِ الثَّرْوَة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن