وجهات نظر

إِيرانُ وَلَعْنَةُ الجُغْرافْيا (2/2)

إِذا كانَ الدّاخِلُ هُوَ ساحَةَ التآكُلِ الأولى ـ كَما بَيَّنّا في الجُزْءِ الأَوَّلِ من هَذا المَقالِ ـ فَإِنَّ نِطاقَ إيرانَ الجِيوسِياسِيَّ هُوَ الِامْتِحانُ الأَكْبَرُ لِحُدودِ قُدْرَتِها على الحَرَكَةِ في زَمَنٍ تَتَبَدَّلُ فيهِ خَرائِطُ القُوَّةِ بِوَتيرَةٍ لَمْ تَعْرِفْها المِنْطَقَةُ من قَبْل. فالمُعادَلَةُ التي حَكَمَتِ الشَّرْقَ الأَوْسَطَ مُنْذُ أَرْبَعَةِ عُقودٍ ـ مُعادَلَةُ الهَوامِشِ الرَّخْوَةِ والفَراغاتِ المَفْتوحَةِ ـ لَمْ تَعُدْ قائِمَة؛ الإِقْليمُ أَصْبَحَ مُكْتَظًّا بِقُوًى صاعِدَة، أَكْثَرَ صَلابَةً في مَواقِفِها، وَأَقَلَّ قابِلِيَّةً لِاخْتِراقِ النُّفوذِ الإيرانيِّ كَما كانَ الحالُ في زَمَنِ الحَرْبِ الأَهْلِيَّةِ اللُّبْنانِيَّة، أَوْ انْهِياراتِ العِراق، أَوْ الفَوْضى السّورِيَّةِ في بداياتِها.

إِيرانُ وَلَعْنَةُ الجُغْرافْيا (2/2)

لَقَدْ بُنِيَتِ الاسْتْراتيجِيَّةُ الإيرانِيَّةُ على فِكْرَةِ "العُمْقِ المُمْتَدِّ خارِجَ الحُدود"، عُمْقٌ يَمْنَحُ طَهْرانَ قُدْرَةً على نَقْلِ خُطوطِ الاشْتِباكِ بَعيدًا عَنْ مَرْكَزِها، وَيُعَوِّضُ هَشاشَةَ المَوْقِعِ الجُغْرافيِّ المُحاطِ بِالخُصوم. غَيْرَ أَنَّ التَّحَوُّلاتِ المُتَسارِعَةَ جَعَلَتْ هَذا العُمْقَ نَفْسَهُ بِحاجَةٍ إلى إِعادَةِ تَعْريف؛ لَيْسَ لِأَنَّ أَدَواتِهِ تَآكَلَتْ، بَلْ لِأَنَّ البيئَةَ التي احْتَضَنَتْهُ تَغَيَّرَتْ جِذْرِيًّا: المَسارِحُ المَفْتوحَةُ صارَتْ ساحاتٍ مُزْدَحِمَةً تَتَقاطَعُ فيها مَصالِحُ دَوْلِيَّةٌ وإِقْليمِيَّة، والفَراغاتُ التي اسْتَنَدَتْ إِلَيْها سِياسَةُ التَّمَدُّدِ امْتَلَأَتْ بِقُوًى قادِرَةٍ على مَنْعِ الِانْفِرادِ بِالساحَة، والخُصومُ الَّذينَ كانَتْ تُطَوِّقُهُمْ إيرانُ عَبْرَ الأَطْرافِ صاروا هُمْ أَنْفُسُهُمْ يُطِلّونَ على أَطْرافِها الحَيَوِيَّة.

كلفة الحفاظ على الامتدادات الخارجية ارتفعت مع تطوّر تقنيات الحرب والردع

ما حَدَثَ لَيْسَ مُجَرَّدَ انْكِماشِ نُفُوذ، بَل كان تَغَيُّرًا في شُروطِ إِدارَةِ النُّفوذ. تُرْكِيا التي كانَتْ لاعِبًا هامِشِيًّا صارَتْ قُوَّةً تَتَجاوَزُ حُدودَها الطَّبيعِيَّةَ بِأَدَواتٍ عَسْكَرِيَّةٍ وَسِياسِيَّةٍ فَعّالَة. العِراقُ الذي مَثَّلَ نُقْطَةَ ارْتِكازٍ مَرْكَزِيَّةً لإيران، بَدَأَ يَسْتَعيدُ تَوازُنَهُ الدّاخِلِيَّ بِطَريقَةٍ لا تَسْمَحُ بِهَيْمَنَةٍ مُطْلَقَةٍ لِأَيِّ طَرَف. وَسورِيا التي كانَتْ ساحَةَ نُفوذٍ شِبْهَ مُطْلَقٍ خِلالَ العَقْدِ الماضِي، تَحَوَّلَتْ إلى ساحَةِ مُساوَماتٍ دَوْلِيَّة، لا يَتَحَرَّكُ فيها لاعِبٌ من دونِ مُراعاةِ حِساباتِ القُوى الأَكْبَر. أَمّا الخَليج، فَقَدْ دَشَّنَ مَرْحَلَةَ بِناءِ تَوازُناتٍ مُنَظَّمَةٍ تُضَيِّقُ هَوامِشَ المُناوَرَةِ التي اسْتَغَلَّتْها إيرانُ طَويلًا.

في هَذِهِ البيئَة، لَمْ يَعُدْ "العُمْقُ الِاسْتْراتيجِيُّ" كَما كان؛ المَساحَةُ التي مَنَحَتْ طَهْرانَ هامِشًا لِتَجَنُّبِ الصِّدامِ المُباشِرِ أَصْبَحَتْ مَصْدَرَ اسْتِنْزافٍ مُتَزايِد، لا بِسَبَبِ ضَعْفِ الإِمْكانات، بَل لِأَنَّ كُلفَةَ الحِفاظِ على الامْتِداداتِ الخارِجِيَّةِ ارْتَفَعَتْ مَعَ تَطَوُّرِ تِقْنِيّاتِ الحَرْبِ والرَّدْع. أَدَواتُ النُّفوذِ التي كانَتْ فاعِلَةً في زَمَنِ الصِّراعاتِ مُنْخَفِضَةِ التَّقْنِيَّةِ أَصْبَحَتْ أَقَلَّ قُدْرَةً على حِمايَةِ المَكاسِبِ في عالَمٍ تَحْكُمُهُ الصَّواريخُ الدَّقِيقَة، والمُسَيَّراتُ بَعيدَةُ المَدى، والمُراقَبَةُ الاسْتِخْبارِيَّةُ فائِقَةُ التَّقَدُّم.

وَعِنْدَ هَذِهِ النُّقْطَةِ يَتَطَلَّبُ الأَمْرُ هَنْدَسَةً جَديدَةً لِنُفوذٍ قَديمٍ بَعْدَما باتَ واضِحًا أَنَّ اسْتِمْرارَ التَّمَدُّدِ بِمَنْطِقِ العَقْدَيْنِ الماضِيَيْنِ لَمْ يَعُدْ مُمْكِنًا. فالمَجالُ الجِيوسِياسِيُّ الذي اسْتُخْدِمَ ذِراعًا لِلقُوَّةِ صارَ ساحَةَ اخْتِبارٍ لِمَدى قُدْرَةِ الدَّوْلَةِ على الحِفاظِ على نُفوذِها بِأَقَلِّ المَوارِدِ وَبِأَدْنى ما يُمْكِنُ أَنْ يَجُرَّهُ عَلَيْها من مَخاطِر.

والسُّؤالُ الأَهَمّ: هَل تَسْتَطيعُ طَهْرانُ تَحْويلَ هَذِهِ الامْتِداداتِ إلى شَبَكاتِ رَدْعٍ صَلْبَة، أَمْ أَنَّ إِعادَةَ هَنْدَسَتِها باتَتْ ضَرورَةً لِمَنْعِها مِنَ التَّحَوُّلِ إلى عِبْءٍ اسْتْراتيجِيّ؟.

هُنا يَتَبَدّى التَّحَوُّلُ بِوُضوح: ما تَغَيَّرَ لَيْسَ حَجْمَ النُّفوذِ الإيرانِيّ، بَل طَبيعَتُه. سورِيا لَمْ تَعُدْ مَنَصَّةَ تَوَسُّع، بَلْ ساحَةَ إِدارَةِ أَزْمَةٍ تَتَداخَلُ فيها خِياراتُ اللاعِبينَ الكِبار. العِراقُ يَتَحَوَّلُ من مُرْتَكَزٍ ثابِتٍ إلى مَساحَةِ تَوازُنٍ تَحْتاجُ إلى إِعادَةِ ضَبْطٍ دَقيقَةٍ لا هَيْمَنَةٍ مُباشِرَة. الخَليجُ يُنْشِئُ مَنْظوماتِ رَدْعٍ تُقَلِّصُ الفَراغاتِ القَديمَة. وَتُرْكِيا بِحِساباتِ المَصالِحِ تَدْفَعُ حُدودَ اللُّعْبَةِ شَمالًا في اتِّجاهٍ يُرْبِكُ الحِساباتِ الإيرانِيَّةَ الكْلاسيكِيَّة.

العمق الاستراتيجي الذي اعتمدت عليه إيران لتفادي المواجهة المباشرة لم يعُد يُوفّر العازل ذاته في زمن الحرب عن بُعد

والنَّتيجَةُ أَنَّ الجُغْرافْيا التي مَنَحَتْ إيرانَ ذِراعَ قُوَّةٍ في الماضي أَصْبَحَتِ اليَوْمَ هِيَ التي تُمْلي حُدودَ الحَرَكَةِ وَتَخْتَبِرُ مُرونَةَ الأَدَوات. لَمْ يَعُدِ النُّفوذُ يُقاسُ بِامْتِلاكِ الأَرْضِ أَوِ المَمَرّاتِ أَوِ الميليشْيات، بَلْ بِمَدى قُدْرَةِ طَهْرانَ على إِدارَةِ هَذِهِ المَساحاتِ المُتَغَيِّرَةِ بِما يَحولُ دونَ تَحَوُّلِها إلى مَصْدَرِ انْكِشافٍ إِضافِيّ.

وَعلى جَبْهَةٍ مُوازِيَة، تَبْرُزُ إِسْرائيلُ كاخْتِبارٍ من طَبيعَةٍ مُخْتَلِفَة؛ لِأَنَّها تَضَعُ الجُغْرافْيا الإيرانِيَّةَ أَمامَ حَرْبٍ حَديثَةٍ لا تُشْبِهُ مُعادَلاتِ الرَّدْعِ التَّقْليدِيَّة. العُمْقُ الاسْتْراتيجِيُّ الذي اعْتَمَدَتْ عَلَيْهِ إيرانُ لِتَفادي المُواجَهَةِ المُباشِرَةِ لَمْ يَعُدْ يُوَفِّرُ العازِلَ ذاتَهُ في زَمَنٍ تُدارُ فيهِ الحَرْبُ عَنْ بُعْد، بِالضَّرَباتِ الدَّقيقَةِ والشَّبَكاتِ الاسْتِخْبارِيَّةِ والمُسَيَّراتِ بَعيدَةِ المَدى. وَهَكَذا يَتَحَوَّلُ العُمْقُ من دِرْعٍ إلى مُخْتَبَرٍ يَقيسُ قُدْرَةَ الدَّوْلَةِ على التَّكَيُّفِ مَعَ مُعادَلاتِ الرَّدْعِ الجَديدَةِ في زَمَنٍ تُدارُ فيهِ الحُروبُ عَنْ بُعْد.

في هَذا السِّياقِ، يَعودُ السُّؤالُ القَديمُ بِثَوْبٍ جَديد: هَل يُمْكِنُ لِلجُغْرافْيا وَحْدَها أَنْ تَحْمِيَ دَوْلَةً في زَمَنٍ تَتَخَطّى فيهِ التَّقْنِيّاتُ حُدودَ الأَرْضِ؟ الجَوابُ يَبْدُو أَقْرَبَ إلى النَّفْي؛ فَكُلُّ امْتِدادٍ خارِجِيٍّ هُوَ بابٌ مُحْتَمَلٌ لِلضَّغْط، وَكُلُّ ضَغْطٍ يَخْتَبِرُ تَكامُلَ العَقيدَةِ العَسْكَرِيَّةِ مَعَ القُدْراتِ التِّقْنِيَّةِ والحُلَفاءِ المَحَلِّيّينَ وَحَرْبِ الظِّلِّ والأَدَواتِ السّيْبرانِيَّة.

وَمَعَ هَذا التَّحَوُّل، تَقْتَرِبُ العَقيدَةُ العَسْكَرِيَّةُ الإيرانِيَّةُ من مَنْطِقِ الحَرْبِ الحَديثَة: تَوْزيعُ الأُصول، المُرونَةُ في الِانْتِشار، وَتَوْظيفُ التِّكْنولوجْيا لِتَعْويضِ ما لا تُوَفِّرُهُ الجُغْرافْيا وَحْدَها. وَهُنا يُصْبِحُ العُمْقُ جُزْءًا من مَنْظومَةِ رَدْعٍ شَامِلَة، لا الأَساسَ الوَحيدَ فيها.

الجغرافيا التي منحت طهران ذراع القوّة يمكن أن تتحوّل إلى مصدر انكشاف

وَفي النِّهايَةِ، تَبْدُو الجُغْرافْيا الإيرانِيَّةُ كَمِرْآةٍ ذاتِ وَجْهَيْن: مِنْحَةٌ تَمْنَحُ الدَّوْلَةَ مَوْقِعًا فَريدًا، وَلَعْنَةٌ مُحْتَمَلَةٌ إِذا لَمْ تُدارُ بِوَعْيٍ اسْتْراتيجيٍّ شَامِل. فالدّاخِلُ بِتَنَوُّعِهِ وَضُغوطِهِ الاقْتِصادِيَّةِ يَحْتاجُ إلى إِعادَةِ ضَبْطٍ لِلتَّماسُك، والإِقْليمُ المُتَحَوِّلُ يَفْرِضُ قَواعِدَ جَديدَةً لِلُّعْبَة، والخارِجُ يَضْغَطُ بِأَدَواتٍ لا تَعْرِفُ حُدودًا وَلا تَوَقُّفًا. لَمْ يَعُدِ الحَديثُ عَنْ حَجْمِ النُّفوذ، بَل عَنْ قُدْرَتِهِ على البَقاءِ تَحْتَ ازْدِحامِ القُوى وَصُعودِ التِّقْنِيّات. لَمْ تَعُدِ المَسْأَلَةُ في أَيْنَ تَمْتَدُّ إيران، بَل في أَيْنَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَثْبُتَ من دونِ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِلاهْتِزاز؟.

وَهُنا تَتَحَدَّدُ الحَقيقَةُ العارِيَة: أَنَّ الجُغْرافْيا التي مَنَحَتْ طَهْرانَ ذِراعَ القُوَّةِ يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَوَّل، في لَحْظَةِ غِيابٍ عَنِ الحِساب، إلى مَصْدَرِ انْكِشاف، وَأَنَّ الدَّوْلَةَ التي نَجَحَتْ طَويلًا في اللَّعِبِ على الهَوامِشِ باتَ مَطْلوبًا منها أَنْ تُمْسِكَ بِالمَرْكَزِ قَبْلَ الأَطْراف، وَأَنْ تُعيدَ تَرْتيبَ أَوْراقِها في عالَمٍ لا يَنْتَظِرُ أَحَدًا.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن