العرب وتحديات الذكاء الاصطناعي

مِنَ الوَظيفَةِ إلى المنَصَّة (2/2)كَيْفَ يَتَغَيَّرُ العَمَلُ العَرَبيّ أَمامَ زَحْفِ الذَّكاءِ الاصْطِناعي؟

يَشْهَدُ العالَمُ العَرَبِيُّ في العَقْدِ الحَاليِّ مِنَ الزَّمَنِ تَحَوُّلًا تَاريخِيًّا في طَبيعَةِ العَمَل، تَحَوُّلًا لا يُشْبِهُ المَوْجاتِ السّابِقَةَ مِنَ التَّغْييرِ الاقْتِصاديِّ التي أَعادَتْ رَسْمَ عَلاقَةِ الفَرْدِ بِسوقِ العَمَل. فَبَيْنَ الضُّغوطِ الاقْتِصادِيَّةِ البُنْيَوِيَّة، والبَطالَةِ الشَّبابِيَّةِ المُتَفاقِمَة، والهِجْرَةِ الواسِعَةِ لِلكَفاءات، يَدْخُلُ العامِلُ العَرَبِيُّ زَمَنَ الذَّكاءِ الاصْطِناعيِّ واقْتِصادِ المِنَصّاتِ بِمَزيجٍ مِنَ القَلَقِ والفُرَص.

مِنَ الوَظيفَةِ إلى المنَصَّة (2/2)
كَيْفَ يَتَغَيَّرُ العَمَلُ العَرَبيّ أَمامَ زَحْفِ الذَّكاءِ الاصْطِناعي؟

إِذا كانَ الذَّكاءُ الاصْطِناعِيُّ يُعيدُ رَسْمَ طَبيعَةِ الوَظائِف، فَإِنَّ اقْتِصادَ المِنَصّاتِ يُعيدُ رَسْمَ عَلاقَةِ الشَّبابِ بِالعَمَلِ ذاتِه. وقَدْ شَهِدَتِ المنطَقَةُ العَرَبِيَّةُ خِلالَ السَّنَواتِ الأَخيرَةِ انْفِجارًا في العَمَلِ الحُرّ، سَواءً على المِنَصّاتِ العالَمِيَّةِ مِثْلَ "أَبْوورْك" (Upwork)، أَوْ على المِنَصّاتِ "العامِلَةِ على الأَرْضِ" المُتَخَصِّصَةِ في النَّقْلِ والتَّوْصيلِ والخِدْمات. وَتُشيرُ بَياناتٌ لِمُنَظَّمَةِ العَمَلِ الدَّوْلِيَّةِ وَمُؤَسَّسَةِ التَّدْريبِ الأوروبِّيَّةِ إلى أَنَّ اقْتِصادَ المِنَصّاتِ في المنطَقَةِ العَرَبِيَّةِ يَنْمُو بِنَحْوِ 14 في المِئَةِ سَنَوِيّا، وَقَدْ يَصِلُ إلى 30 مِليارَ دولارٍ بِحُلولِ عامِ 2025. كَذَلِك، شارَكَ أَكْثَرُ من 29 مِليونَ شَخْصٍ في الشَّرْقِ الأَوْسَطِ وَأَفْريقْيا في أَعْمالِ العَمَلِ الحُرِّ خِلالَ عامِ 2023، بَيْنَما سَجَّلَتْ بَعْضُ بُلدانِ الخَليجِ ارْتِفاعًا بِنِسْبَةِ 142 في المِئَةِ في تَسْجيلاتِ العَمَلِ الحُرِّ خِلالَ سَنَةٍ واحِدَة.

جيل اليوم يبحث عن المرونة والاستقلاليّة والمنصّات الرقمية تمنح قدرة على تنظيم الوقت وتحقيق دخل مرن

هَذا النُّمُوُّ لا يَعْكِسُ فَقَطْ تَوَسُّعَ التِّكْنولوجْيا، بَلْ يَعْكِسُ أَزْمَةً أَعْمَقَ في سوقِ العَمَلِ العَرَبِيَّة. فَوَفْقَ دِراساتِ مُؤَسَّسَةِ التَّدْريبِ الأوروبِّيَّة، أَكْثَرُ من 40 في المِئَةِ مِنَ العامِلينَ في مِنَصّاتِ النَّقْلِ والتَّوْصيلِ في الجُمْهورِيَّةِ اللُّبْنانِيَّة، وَأَكْثَرُ من 60 في المِئَةِ في المَمْلَكَةِ المَغْرِبِيَّة، دَخَلوا هَذا النَّوْعَ مِنَ العَمَلِ لِغِيابِ البَدائِل. وَهَذا يَعْني أَنَّ الهُروبَ مِنَ الوَظيفَةِ لَيْسَ تَعْبيرًا عَنْ رَغْبَةٍ في الحُرِّيَّةِ دائِمًا، بَل يَكونُ في الأَغْلَبِ هُروبًا مِنَ البَطالَةِ أَوْ مِنَ الانْهِيارِ الاقْتِصاديِّ في بَعْضِ البُلدان.

لَكِنَّ عَوامِلَ القَبولِ بِالعَمَلِ الحُرِّ تَتَجاوَزُ الضَّرورَةَ الاقْتِصادِيَّة، فَجيلُ اليَوْمِ يَبْحَثُ عَنِ المُرونَةِ والاسْتِقْلالِيَّة. لَمْ تَعُدِ الوَظيفَةُ التَّقْليدِيَّةُ مُقْنِعَةً كَما كانَتْ في العُقودِ الماضِيَةِ مِنَ الزَّمَن: ساعاتُ عَمَلٍ طَويلَة، وَأُجورٌ ثابِتَةٌ غَيْرُ مُتَناسِبَةٍ مَعَ التَّضَخُّم، وانْعِدَامُ فُرَصِ التَّرَقّي المِهْنيِّ في قِطاعاتٍ مُتَجَمِّدَة.

في المُقابِلِ، تَمْنَحُ المِنَصّاتُ الرَّقْمِيَّةُ قُدْرَةً على تَنْظيمِ الوَقْت، وَعلى الجَمْعِ بَيْنَ العَمَلِ والدِّراسَة، وَعلى تَحْقيقِ دَخْلٍ مَرِنٍ في البُلدانِ الَّتِي تُعاني مِنِ انْهِيارِ العُمْلَة. هَؤُلاءِ العامِلون، وَلا سِيَّما في التِّكْنولوجْيا وَصِناعَةِ المُحْتَوى، يَحْصُلونَ في الكَثيرِ مِنَ الأَحْيانِ على أُجورٍ بِالدولار، ما يَرْفَعُ جاذِبِيَّةَ العَمَلِ الحُرِّ مُقارَنَةً بِوَظائِفَ مَحَلِّيَّةٍ مُتَدَنِّيَةِ الأَجْر.

التجارب العالمية الرائدة تتجه نحو الاعتراف القانوني بعاملي المنصّات وضمان حقوقهم الأساسية

في المُقابِل، تُشيرُ تَقاريرُ مُنَظَّمَةِ العَمَلِ الدَّوْلِيَّةِ إلى أَنَّ أَكْثَرَ من نِصْفِ العامِلينَ في العالَمِ العَرَبيِّ يَعْمَلونَ في الاقْتِصادِ غَيْرِ الرَّسْميِّ أَصْلًا، أَيْ من دونِ تَأْميناتٍ أَوْ تَقاعُدٍ أَوْ حِمايَةٍ قانونِيَّة. أَمّا اقْتِصادُ المِنَصّات، على الرَّغْمِ من حَداثَتِهِ الرَّقْمِيَّة، فَيَأْتي امْتِدادًا لِهَذا النَّمَطِ لا خُروجًا عَلَيْه، ذَلِكَ أَنَّ عامِلي المِنَصّاتِ يُواجِهونَ ثَلاثَةَ أَوْجُهِ هَشاشَةٍ رَئيسة:

1-  غِيابُ الحِمايَةِ الِاجْتِماعِيَّة: لا يَتَمَتَّعُ عادَةً العامِلُ الَّذِي يَقودُ دَرّاجَةَ تَوْصيلٍ أَوْ سَيارَةَ نَقْل، بِتَأْمينٍ صِحّيٍّ أَوْ ضَمانٍ اجْتِماعيٍّ أَوْ تَعْويضٍ مَرَضِيّ.

2-  عَدَمُ الِانْتِظامِ في الدَّخْل: تَعْتَمِدُ الأَرْباحُ على خَوارِزْمِيّاتٍ لا يَعْرِفُ العامِلُ قَواعِدَها بِصورَةٍ شَفّافَة، وَعلى الطَّلَبِ الَّذِي يَشْهَدُ تَذَبْذُبًا حَادًّا.

3-  انْعِدامُ الأَمانِ الوَظيفي: يُمْكِنُ أَنْ توقِفَ المِنَصَّةُ حِسابَ العامِلِ أَوْ تُقَلِّصَ وُصولَهُ إلى الطَّلَباتِ من دونِ أَنْ تُوَفِّرَ لَهُ مَسارَ تَظَلُّمٍ واضِحًا.

جانِبٌ آخَرُ مِنَ الثَّوْرَةِ الرَّقْمِيَّةِ يَتَمَثَّلُ في ظُهورِ فِئاتٍ جَديدَةٍ مِنَ العامِلِين.

الفِئَةُ الأُولَى هِيَ "المُسْتَقِلّونَ التِّكْنولوجِيّون"، الَّذينَ يَعْمَلونَ عَنْ بُعْدٍ في البَرْمَجَة، والتَّصْميمِ، وَتَحْليلِ البَيانات، والتَّسْويقِ الرَّقْمِيّ، والتَّرْجَمَة، وَصِناعَةِ المُحْتَوى. وَيَنْدَمِجُ هَؤُلاءِ مُباشَرَةً في الاقْتِصادِ العالَمِيّ، لَكِنَّهُمْ يُواجِهونَ مُنافَسَةً عالَمِيَّةً تَجْعَلُ دَخْلَهُمْ غَيْرَ ثابِتٍ بِالضَّرورَة.

الفِئَةُ الثّانِيَةُ هِيَ عامِلو المِنَصّاتِ الخِدْمِيَّةِ العامِلَةِ "على الأَرْضِ" مِثْلَ سائِقي التَّوْصيلِ وَمُقَدِّمي الخِدْماتِ المَنْزِلِيَّةِ الَّذينَ يُمَثِّلونَ الشَّريحَةَ الأَوْسَع.

وهُناكَ فِئَةٌ ثَالِثَةٌ آخِذَةٌ في النُّمُوّ: المُؤَثِّرونَ وَصُنّاعُ المُحْتَوى، الَّذينَ يُشَكِّلونَ اقْتِصادًا مُسْتَنِدًا إلى الإِعْلانِ والعُمولات، لَكِنَّهُ اقْتِصادٌ هَشٌّ بِطَبيعَتِه، يَتَأَثَّرُ بِتَغَيُّرِ سِياساتِ المِنَصّاتِ وَخَوارِزْمِيّاتِها.

يحمل اقتصاد المنصّات فرصًا حقيقية إِذا ما استُثمر من ضمن رؤية تنموية شاملة

في ظِلِّ هَذا المَشْهَدِ، يُطْرَحُ سُؤَالُ المُسْتَقْبَلِ نَفْسُه: هَل سَيَبْقى العَمَلُ الحُرُّ هُوَ المَسارَ السّائِدَ لَدى الشَّباب؟ أَمْ أَنَّهُ ظاهِرَةٌ انْتِقالِيَّة؟ لِلإِجابَة، يَجِبُ النَّظَرُ في اتِّجاهَيْنِ مُتَوازِيَيْن. الِاتِّجاهُ الأَوَّلُ هُوَ تَراجُعُ الوَظائِفِ التَّقْليدِيَّةِ بِفِعْلِ الأَتْمَتَةِ والذَّكاءِ الاصْطِناعِيّ، ما يَجْعَلُ العَمَلَ الحُرَّ خِيارًا ضَرورِيًّا لِلعَديدِ مِنَ الشَّباب. الاتِّجاهُ الثَّاني هُوَ غِيابُ إِصْلاحَاتٍ تَشْريعِيَّةٍ جَذْرِيَّةٍ تُنَظِّمُ هَذا النَّوْعَ مِنَ العَمَل.

التَّجارِبُ العالَمِيَّةُ الرّائِدَة - مِثْلُ الِاتِّحادِ الأوروبّيِّ وَكَنَدا - تَتَّجِهُ نَحْوَ الاعْتِرافِ القَانونيِّ بِعامِلي المِنَصّاتِ وَضَمانِ حُقوقِهِمُ الأَساسِيَّة. لَكِنَّ مُعْظَمَ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ لَمْ تَلحَقْ بَعْدُ بِهَذِهِ المَوْجَة، بِاسْتِثْناءِ مُبادَراتٍ أَوَّلِيَّةٍ في بُلدانِ الخَليج.

العالم العربي أمام لحظة تاريخية فإِمّا تحويل اقتصاد المنصّات إلى رافعة للعمل اللائق أو تركه يتحوّل إلى اقتصاد هش

مَعَ ذَلِكَ، يَحْمِلُ اقْتِصادُ المِنَصّاتِ فُرَصًا حَقيقِيَّةً إِذا ما اسْتُثْمِرَ من ضِمْنِ رُؤْيَةٍ تَنْمَوِيَّةٍ شامِلَة. قَدْ يَتَحَوَّلُ العَمَلُ الحُرُّ إلى قَناةٍ لِرَفْعِ مُشارَكَةِ النِّساءِ في سوقِ العَمَل، وَإلى فَضاءٍ لانْدِماجِ اللّاجِئينَ والشَّبابِ المَحْرومينَ مِنَ الفُرَص، وَإلى جِسْرٍ يَرْبِطُ المِنْطَقَةَ بِالاقْتِصادِ العالَميِّ الرَّقْمِيّ. لَكِنَّ هَذِهِ الفُرَصَ لَنْ تَتَحَقَّقَ من دونِ سِياساتٍ تَضْمَنُ تَكافُؤَ الفُرَص، والتَّدْريبَ المُسْتَمِرّ، والحِمايَةَ الاجْتِماعِيَّة.

بِذَلِكَ، يَتَّضِحُ أَنَّ الهُروبَ مِنَ الوَظيفَةِ التَّقْليدِيَّةِ لَيْسَ مُجَرَّدَ نَزْعَةٍ جِيلِيَّة، بَل هُوَ نَتيجَةُ تَراكُبِ العَوامِلِ الاقْتِصادِيَّةِ والتِّكْنولوجِيَّةِ والِاجْتِماعِيَّة. والعالَمُ العَرَبِيُّ يَقِفُ أَمامَ لَحْظَةٍ تَارِيخِيَّة: إِمّا تَحْويلُ اقْتِصادِ المِنَصّاتِ إلى رافِعَةٍ لِلعَمَلِ اللائِق، أَوْ تَرْكُهُ يَتَحَوَّلُ إلى اقْتِصادٍ هَشٍّ يَسْتَنِدُ إلى مَهاراتٍ مَفْقودَةٍ وَغِيابِ ضَماناتٍ مُسْتَقْبَلِيَّة.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن