نَعَم، كانَ العَمَلُ موجَّهًا بِالأَساسِ لِمُتابَعَةِ مَسيرَةِ إِحْدى الشَّرِكاتِ الرّائِدَةِ في مَجالِ الذَّكاءِ الاصْطِناعِيّ، إِلَّا أَنَّهُ، لَيْسَ حَسَبَ المُؤَلِّفَةِ فَقَط، بَل بِإِجْماعِ المَعْنِيّينَ بِهَذا المَجالِ وَتَطَوُّراتِه، يَذْهَبُ بَعيدًا جِدًّا لِما وَراءَ هذِهِ المَسيرَةِ إِلى مُتابَعَةِ انْطِلاقَةِ طُموح، وَحُلْمٍ عِلمِيّ، واعِدٍ وَعَظيم. إِذْ بَيْنَما كانَتِ المُؤَلِّفَةُ تُتابِعُ تِلكَ الانْطِلاقَةَ بَدَأَتْ تَرْصُدُ كَيْفَ أَنَّ هذا الحُلمَ العَظيمَ قَدْ بَدَأَ يَتَحَوَّلُ إِلى خَطَرٍ جَسيمٍ على الإِنْسان. لِماذا؟ تُجيبُ المُؤَلِّفَةُ في تَقْديمِها لِلكِتاب - نَقْتَطِفُ هُنا جانِبًا مِمَّا كَتَبَتْهُ وَنُتَرْجِمُهُ بِتَصَرُّف - بِما يَلِي: "إِنَّهُ بُورْتْريهٌ لِطُموحٍ عِلميٍّ تَحَوَّلَ إِلى مَشْروعٍ إيدْيولوجيٍّ عُدْوانيٍّ تَقودُهُ القُوَّةُ المالِيَّة، وَدِراسَةٌ فاحِصَةٌ لِبَصْمَتِهِ المُتَشَعِّبَةِ والمُتَمَدِّدَة، وَتَأَمُّلٌ في الهَيْمَنَةِ السُّلطَوِيَّةِ التي باتَ يُمارِسُها".
"إمبراطورية الذكاء الاصطناعي" تستهدف التمدُّد العابر للعقول
إِنَّ هَذا التَّحَوُّلَ - الانْقِلاب، دَفَعَها إِلى إِعادَةِ النَّظَرِ في طَبيعَةِ الدَّوْرِ المَوْعودِ لِلذَّكاءِ الاصْطِناعيِّ في حَياةِ الإِنْسانِيَّة، مِنْ كَوْنِهِ تِقْنِيَّةً عِلمِيَّةً في خِدْمَةِ الإِنْسانِ / المُواطِنِ إِلى كَوْنِه قُوَّةً اقْتِصادِيَّةً وَسِياسِيَّةً - احْتِكارِيَّةً - لا حُدودَ لِقُوَّتِها، قادِرَةً على التَّحَكُّمِ في العالَمِ / الإِنْسانِيَّة. وَإِنَّ هذِهِ القُوَّةَ باتَتْ تَسْلُكُ سُلوكًا يُماثِلُ سُلوكَ الإِمْبَراطورِيّاتِ التي عَرَفَتْها البَشَرِيَّةُ عَبْرَ تاريخِها، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ السَّيْطَرَةِ على الثَّرْوَةِ والمُقَدَّراتِ والمَصائِر. بَيْدَ أَنَّ الثَّرْوَةَ والمُقَدَّراتِ في حالَتِنا الرّاهِنَةِ لَيْسَتِ الأَرْضَ والذَّهَبَ والنَّفْط، أَوْ ما شابَه، بَل صارَتِ البَياناتُ والمَعْلوماتُ والخَوارِزْمِيّاتُ التي أَصْبَحَ مِنْ خِلالِها يُمْكِنُ التَّحَكُّمُ في تَدَفُّقِ المَعْلوماتِ والمَعْرِفَةِ والتَّوْجيهِ المُبَرْمَجِ لِمَصائِرِ الشُّعوبِ والمُجْتَمَعاتِ / الدُّوَل. بِلُغَةٍ أُخْرَى، صارَتْ مَنْظومَةُ الذَّكاءِ الاصْطِناعيِّ التِّقْنِيَّةُ إِمْبَراطورِيَّةَ "تَوَسُّعٍ وَهَيْمَنَة"، مِثْلَما كانَتِ الإِمْبَراطورِيّاتُ التّاريخِيَّة، وَإِنِ اخْتَلَفَ هَدَفُ التَّوَسُّعِ / الهَيْمَنَة... كَيْف؟
فَبَيْنَما كانَتِ الإِمْبَراطورِيّاتُ التّاريخِيَّةُ مَعْنِيَّةً بِالتَّمَدُّدِ الجِيوسِياسيِّ العابِرِ لِلحُدود، فَإِنَّ "إِمْبَراطورِيَّةَ الذَّكاءِ الِاصْطِناعيِّ" صارَتْ تَسْتَهْدِفُ التَّمَدُّدَ العابِرَ لِلعُقولِ الذي مِنْ شَأْنِهِ التَّحَكُّمُ في مَصائِرِ الأَجْناسِ المُخْتَلِفَةِ لِصالِحِ الشَّرِكاتِ المُتَحَكِّمَةِ في التِّكْنولوجْيا الرَّقْمِيَّةِ والذَّكاءِ الاصْطِناعِيّ، وَذَلِكَ مِنْ خِلالِ سَيْطَرَةِ المَرْكَزِ الرَّقْميِّ - القَلبِ/المَتْنِ - في الشَّمالِ على: المَعْرِفَة، والبَيانات، والبُنَى التَّحْتِيَّةِ الرَّقْمِيَّة، والعَمالَةِ في الأَطْراف - التُّخُومِ/الهَوامِشِ - في الجَنوب. أَيْ إِحْكامُ شَرِكاتِ التِّقْنِيّاتِ الرَّقْمِيَّةِ والذَّكاءِ الاصْطِناعيِّ السَّيْطَرَةَ التَّامَّةَ على البُنْيَةِ الرَّقْمِيَّةِ الإِنْتاجِيَّةِ المَعْرِفِيَّةِ حَوْلَ الكَوْكَب، وَبِالتّالِي مَصائِرَ مُواطِنيه، وَتَوْظِيفَ ذَلِكَ لِصالِحِ التَّحالُفاتِ التي تَنْسُجُها مَعَ "الأوليغارْكِيّات" - الجَديدَة - الحاكِمَةِ في دُوَلِ المَرْكَزِ وامْتِداداتِها في دُوَلِ الأَطْراف، في ضَوْءِ الأَهْدافِ الاسْتْراتيجِيَّةِ المُتَجَدِّدَةِ لِتِلكَ التَّحالُفات.

لَقَدْ رَسَمَتْ "كارين هاو"، في حَقيقَةِ الأَمْر، "بورْتْريها"، لَمْ يُوَجِّهْ النَّظَرَ إِلى اللَّحْظَةِ التّاريخِيَّةِ الفارِقَةِ التي انْقَلَبَ فيها - لَيْسَ بِالكُلِّيَّةِ حَتّى الآنَ - الوَعْدُ العَظيمُ لِلذَّكاءِ الاصْطِناعيِّ إِلى خَطَرٍ جَسيم؛ أَوْ بِلُغَةِ المُؤَلِّفَة: تَحَوَّلَ الذَّكاءُ الاصْطِناعِيُّ مِنْ حُلْمٍ إِلى كابوس. إِنَّما جَعَلَنا نُدْرِكُ عُمْقَ التَّحَوُّلِ الكَبِيرِ (إِذا ما اسْتَعَرْنا عُنْوانَ كِتابِ المُؤَرِّخِ والعالِمِ الاقْتِصاديِّ النَّمْساويّ/المَجَريِّ كارْل بولانْيي (Polányi Károly)، 1886 – 1964: "التَّحَوُّلُ الكَبِير") الذي طَرَأَ على العالَمِ بَعْدَ انْقِضاءِ الرُّبْعِ الأَوَّلِ مِنَ القَرْنِ الواحِدِ والعِشْرين. فإِذا كانَ كارْل بُولانْيِي قَدْ رَصَدَ التَّغْييراتِ الاقْتِصادِيَّةَ والسِّياسِيَّةَ لِزَمَنِ ما بَعْدَ الثَّوْرَةِ الصِّناعِيَّةِ والحَرْبَيْنِ العالَمِيَّتَيْن، فَإِنَّ "هاو" تُقَدِّمُ لَنا مادَّةً مَعْرِفِيَّةً غَزيرَةً اسْتِقْصائِيَّةً حَوْلَ ما طَرَأَ على البُنى الاقْتِصادِيَّةِ والسِّياسِيَّةِ والاجْتِماعِيَّةِ والثَّقافِيَّةِ في الزَّمَنِ الرَّقْمِيّ. وَلَعَلَّ أَهَمَّ ما أَضافَتْهُ وَفَصَّلَتْهُ "كارين هاو" في كِتابِها المَرْجِعيّ (580 صَفْحَةً - النُّسْخَةُ الإِلِكْتْرونِيَّةُ) هُوَ وَصْفُ السُّلوكِ الاقْتِصادِيِّ السِّياسيِّ لِشَرِكاتِ التِّقْنِيّاتِ الرَّقْمِيَّةِ والذَّكاءِ الاصْطِناعِيِّ بِالسُّلوكِ الإِمْبَراطوريِّ الذي يُجَدِّدُ النَزْعَةَ العُبودِيَّةَ التَّاريخِيَّةَ في السِّياقِ الرَّقْمِيّ. إِذْ إِنَّ هُناكَ مَرْكَزًا يُراكِمُ المَعْرِفَةَ مِنْ خِلالِ طَبَقَةٍ تِقْنِيَّةٍ تُهَيْمِنُ على تِقْنِيّاتِ المَعْلوماتِ والمَعْرِفَةِ وَتَقومُ بِإِعادَةِ تَوْجيهِها حَسَبَ المَصالِح. وَتَتمّ بِالتَّزامُنِ مَعَ تِلكَ العَمَلِيَّة، عَمَلِيَّةٌ أُخْرى مُتَمِّمَةٌ لَها يَقومُ بِها الخُبَراءُ في الأَطْرافِ بِاعْتِبارِهِمْ قُوَّةَ عَمَلٍ رَخيصَةً في المَجالِ التِّقْنيِّ الرَّقْمِيّ.
إِنَّ أَخْطَرَ ما طَرَحَتْهُ "هاو" هُوَ مَرْكَزَةُ - احْتِكارُ - القُوَّة / المَعْرِفَةِ في أَيْدي قِلَّةٍ مِنَ الشَّرِكاتِ الرَّقْمِيَّة. ما يَدْفَعُ إِلى ضَرورَةِ إِدْراكِ أَنَّ الأَمْرَ قَدْ تَجاوَزَ البُعْدَ التِّقْنِيَّ إِلى الاقْتِصاديِّ والسِّياسِيّ. إِنَّ السُّؤالَ الذي يَجِبُ طَرْحُهُ لَيْسَ: هَلِ الذَّكاءُ الاصْطِناعِيُّ جَيِّدٌ أَمْ سَيِّئٌ؟ بَل: مَنْ يَمْلِكُهُ؟ وَمَنْ يَتَحَكَّمُ فيه؟ وَلِخِدْمَةِ أَيِّ أَهْدافٍ وَمَصالِح؟ وَما تَداعِياتُ كُلِّ ذَلِكَ على مواطِني هذا العَصْرِ وَحُقوقِهِمُ الأَساسِيَّة؟ (في هَذا الإِطار، نُذَكِّرُ بِمَجْموعَةِ الإِشْكالِيّاتِ الإِنْسانِيَّةِ الوُجودِيَّةِ والمَصيرِيَّةِ التي أَثَرْناها حَوْلَ الذَّكاءِ الاصْطِناعِيِّ مِنْ خِلالِ مَقالاتِنا في "عروبة 22": الذكاء الاصطناعي يستنفر العقل الماركسي، الذكاء الاصطناعي والعقل الديني، الذكاء الاصطناعي والشعور الإنساني، هل يقضي الذكاء الاصطناعي على الفقر أم يضاعف الفقراء؟، العدالة الرقمية زمن الذكاء الاصطناعي، الإبداع الإنساني زمن الذكاء الاصطناعي، الثُّنائِيّاتُ الإِنسانِيَّةُ زَمَنَ الذَّكاءِ الاصطِناعِيّ، العَقلِيَّةُ الإنسانيَّةُ و"الذَّكائِيَّةُ" الاصطناعِيَّة: تَناغُمٌ أم تَنافُر؟).
نكتشف كيف تأسّست الإمبراطورية الرقمية مُستنسخةً كلّ قيم الإمبراطوريات التاريخية
ظَنّي أَنَّ "هاو" - على الرَّغْمِ مِمَّا تَعَرَّضَتْ لَهُ أُطْروحَتُها مِنِ انْتِقادات - قَدِ اسْتَطاعَتْ أَنْ تُعَرِّيَ واقِعَ الإِمْبَراطورِيَّةِ الحاكِمَةِ في عَصْرِنا: إِمْبَراطورِيَّةَ الذَّكاءِ الاصْطِناعِيّ؛ مُسْتَنِدَةً في ذَلِكَ على تَتَبُّعٍ دَقيقٍ لِمَسيرَةِ إِحْدى شَرِكاتِ الذَّكاءِ الاصْطِناعِيِّ مُنْذُ بِدايَةِ تَأْسيسِها، الذي وَعَدَتْ فيهِ بِأَنَّها لا تَسْعى إِلى الرِّبْحِ وَأَنَّها في خِدْمَةِ الإِنْسانِيَّةِ وَتَلتَزِمُ "فَتْحَ الذَّكاءِ الاصْطِناعِيِّ أَمامَ الجَميع"، إِلَّا أَنَّهُ وَبِمُرورِ الوَقْتِ تَحَوَّلَتْ هذِهِ الشَّرِكَةُ إِلى كِيانٍ تِجاريٍّ مَحْضٍ يُطْلِقُ نَماذِجَ تَحْتَكِرُها، مُغْلَقَةً وَمَحْمِيَّةً تُتاحُ نَظيرَ مُقابِلٍ لِمَنْ يَقْدِرُ في الأَغْلَب. وَمِنْ خِلالِ تَتَبُّعِ هذِهِ المَسيرَةِ نَكْتَشِفُ كَيْفَ تَأَسَّسَتِ الإِمْبَراطورِيَّةُ الرَّقْمِيَّةُ مُسْتَنْسِخَةً - على الرَّغْمِ مِنَ الفارِقِ الزَّمَنيِّ بَيْنَهُما - كُلَّ قِيَمِ الإِمْبَراطورِيّاتِ التّاريخِيَّةِ مِنْ عِينَة: الحَقِّ الإِلَهِيّ، وَتَمَدُّنِ العالَم، وَمُمارَسَةِ إِمْبِريالِيَّةٍ رَقْمِيَّةٍ احْتِكارِيَّة، واسْتْراتيجِيَّةِ الأَرْضِ المَنْهوبَة، والخَفاءِ والتَّآمُر... إِلَخ. وَتَخْتِمُ "كارين هاو" كِتابَها بِخاتِمَةٍ نَظَرِيَّةٍ حَوْلَ كَيْفِيَّةِ صِياغَةِ الإِمْبَراطورِيَّةِ الرَّقْمِيَّةِ وَطَبيعَتِها وَسُلوكِها وَأَثَرِ ذلك على مواطِني الكَوْكَب.
وَبَعْد، إِنَّ الكِتابَ يُقَدِّمُ إِضافَةً مُهِمَّة - بَعيدًا عَنِ الكُتُبِ ذاتِ الطَّبيعَةِ التِّقْنِيَّةِ المَحْضَة، على أَهَمِّيَّتِها القُصْوى، المُنْتَشِرَةِ في الإِمْبَراطورِيَّةِ الموحِيَةِ بِأَنَّ الذَّكاءَ الاصْطِناعِيَّ قَدْ صارَ مُتاحًا لِلجَمِيع - يَشْرَحُ فيها كَيْفَ تَحَوَّلَ الوَعْدُ العَظِيمُ: الحُلْمُ؛ إِلى وَعيدٍ جَسِيم: كابوس؛...
(خاص "عروبة 22")

