حَسَبَ تقريرٍ صادرٍ عن مؤسّسة "لجنةِ الأممِ المتحدةِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ لغربِ آسيا" (ESCWA)، في عامِ 2020، قُدّرَتْ قيمةُ المعادنِ غيرِ الوُقودِيَّةِ (أيْ غيرِ النّفطِ والغازِ) في الدولِ العربيةِ بنحو 23 مليارَ دولار. في بعضِ الدولِ تكونُ مساهمةُ هذه المعادنِ ملموسةً: مَثَلًا في موريتانيا تُشكّلُ حَوالَى 24% من النّاتجِ المَحَلِّي (من قطاعِ المعادنِ غير الوقوديّةِ - الفوسفات)؛ في السعوديةِ، تُشير التَّوَقُعاتُ إلى أنَّ قيمةَ مُساهمةِ قِطاعِ التَّعْدينِ المحلّي ستنمو من حوالَى 17 مليارَ دولارٍ إلى 75 مليارَ دولارٍ بحلولِ منتصفِ العقدِ المُقْبِل. أمّا في مِصْرَ، فتهدفُ الدولةُ إلى رفعِ مساهمةِ القطاعِ المعدنيّ في النّاتجِ المحلّي إلى 5-6% بحلولِ عامِ 2030 من خلالِ إصلاحاتٍ تشريعيةٍ وتشجيعِ الاستثمارات.
بدلًا من الاقتصار على تصدير المواد الخام يمكن للعالم العربي أن يدخل مراحل المُعالجة والتصنيع
عِنْدَما تتحوّلُ المعادنُ النّادرةُ أو المَعْدِنِيَّةُ من مجرّدِ خاماتٍ تُصَدَّرُ بسعرٍ منخفضٍ إلى مُنتجاتٍ مُعالَجَةٍ أو مُكَوِّناتٍ إلكترونيةٍ، فإنَّ القيمةَ المُضافةَ ترتفعُ كثيرا. وإذا نَجَحَتْ دولةٌ عربيةٌ ما في زيادةِ مُساهمةِ التعدينِ والمعادنِ في النّاتجِ المحلّي من مَثَلًا 1% إلى 5% مثلًا أَوْ أكثرَ، فَهَذا يَعْنِي ملياراتٍ إضافيةً سنويًّا للدولةِ، ومن ذلكَ استخدامُ هذه الأموالِ في البُنَى التحتيّةِ والخدمات.
المعادنُ النّادرةُ لَيْسَتْ "نادرةً" بِمَعْنَى النُّدْرَةِ الجيولوجِيَّةِ، بلْ لأنَّ استخراجَها ومعالجتَها مُعَقَّدَان ويتطلّبانِ تقنياتٍ عاليةً واستثماراتٍ طويلةَ المدَى. وعلى الرَّغم من أنَّ العالمَ العربيّ لم يَكُنْ في طليعةِ المُنتجينَ، إلّا أنَّهُ يَمْلِكُ أسُسًا قويةً تَسْمَحُ لَهُ بدخولِ هذا المَيْدان.
المغربُ على سبيلِ المثالِ، يمتلكُ احْتِياطِيّاتٍ ضخمةً من الفوسْفاتِ يمكنُ استخلاصُ عناصرَ نادرةٍ من بقاياهُ الصناعيةِ، خُصوصًا في إطارِ المشاريعِ البيئيةِ لمجموعةِ "المكتبِ الشريفِ للفوسفاتِ" (OCP). من جهتِها، تملكُ الجزائرُ ثرواتٍ فوسفاتيّةً كبيرةً في تبسة وغار جبيلات، إلى جانبِ معادنَ أخرى في الجنوبِ لم تُسْتَكْشَفْ ولم تُسْتَغَلَّ بعدُ بالشكلِ الكافِي. أمّا مصرُ، فقد بدأتْ بالفعلِ استغلالَ الرمالِ السوداءِ في شمالِ الدِّلْتا، وهيَ تَحْتَوِي على معادنَ تُستخدمُ في صناعةِ البطاريّاتِ والمحرّكاِت وَالمَغْناطيسات. السعوديّةُ والإماراتُ دَخَلَتا مرحلةً متقدّمةً في بناءِ صناعاتِ تعدينٍ ومُعالَجَةٍ ضمنَ رؤيةِ تنويعِ الاقتصادِ وتقليلِ الاعتمادِ على النَّفْط. الأردنُّ والسودانُ يَمْتَلِكانُ إمكاناتٍ جيولوجيةً واعدةً يمكنُ أن تُصْبِحَ رافدًا مُهِمًّا في السنواتِ المقبلَة.
يمكن إِدماج برامج مشتركة بين الجامعات والمؤسّسات الصناعية لتدريب الطلبة في مشاريع التعدين والطاقة المُستدامة
التحوّلُ العالمي نحوَ الطاقةِ النظيفةِ والمَرْكَباتِ الكهربائيةِ يعني أنَّ الطلبَ على هذهِ المعادنِ سيزدادُ بشكلٍ هائلٍ في العقدِ المُقْبِل. بالنسبةِ للدولِ العربيةِ، هذه لَيْسَتْ مُجَرَّدَ فرصةٍ اقتصاديةٍ، بل فرصةٌ للتحوّلِ الهيكليّ في الاقتصَاد. فبدلًا من الاقْتِصارِ على تصديرِ الموادِ الخامِ، يمكنُ للعالمِ العربيّ أنْ يدخلَ مراحلَ المُعالجةِ والتصنيعِ، ممّا يُضاعفُ العائداتِ ويخلقُ فرصَ عملٍ جديدة.
من خلالِ استغلالِ هذه الثّرواتِ بشكلٍ متكاملٍ - من التعدينِ إلى الصناعاتِ التكنولوجيةِ - يمكنُ بناءُ اقتصادٍ متنوّعٍ يقومُ على الابتكارِ والمعرفةِ وليسَ فقطْ على النَّفْطِ والغاز. وهذه فرصةٌ لتطويرِ التعليمِ الجامعيّ حيثُ من المُفيدِ أنْ تبدأَ الجامعاتُ إِنْشاءَ تَخَصُّصاتٍ جديدةٍ مِثْلَ "اقتصادِ المعادنِ الحرجةِ"، و"تكنولوجيا الاستخلاصِ والمعالجةِ"، و"الطاقةِ الخضراءِ والموادِّ المتقدمَة". كما يمكنُ إِدْماجُ برامجَ مُشتركةٍ بين الجامعاتِ والمؤسّساتِ الصناعيةِ لتدريبِ الطلبةِ مَيْدانِيًّا في مشاريعِ التعدينِ والطاقةِ المُستدامَة. بهذا الشكلِ، يتحوّلُ التعليمُ من مجالٍ نظريّ إلى رافدٍ مباشِرٍ لسوقِ العمَل.
كونُ الدولِ العربيةِ قريبةً جُغْرافِيًّا من أوروبا وآسيا، فإنّها تُمَثِّلُ مواقعَ جذّابةً لإنشاءِ مصانعَ معالَجةِ ومغناطيساتٍ وقوًى كهربائيةٍ، ثمّ إِنَّ الاستثمارَ الأجنبيّ لا يجلبُ المالَ فقطْ، بل يُدْخِلُ المعرفةَ التقنيةَ، ويُساهمُ في بناءِ خبرةٍ محليةٍ تُسهمُ في المشاريعَ المستقبليَّة. إنَّ شركةَ التعدينِ السعوديةَ "مَعادِنْ" مثلًا، وقّعتْ شراكةً مع شركةٍ أميركيةٍ معروفةٍ لبناء سلسلةٍ مُتكاملةٍ لاستخلاصِ المعادنِ ومعالجتِها داخلَ المملكَة.
التكامل يُعزّز مكانة المنطقة كشريك في التحوّل الصناعي المقبل من عصر المعادن التقليديّة إلى عصر المعادن النادرة
البلدانُ العربيةُ تمتلكُ مبرّراتِ التعاونِ المعدنيّ بَيْنَها. لكلِّ بلدٍ عربيّ ميزاتٌ عدّةٌ في مجالِ المعادنِ، لكنَّ بعضَ الدولِ لديها ميزاتٌ تنافسيةٌ أكثرَ من غيرِها في هذا المجالِ، لِذا فإنّ التعاونُ بينَها يُريحُ الجميعَ ويقلّلُ التكاليف. هناك دولٌ تملكُ الموادَّ الخامَ والقدراتِ الصناعيةَ (المغرب، الجزائر، مصر، السودان)، وأخرَى تملكُ القدرةَ الاستثماريةَ (السعودية، الإمارات، قطر)، وثالثةٌ تملكُ الخبرةَ البشريّةَ والتعليميّةَ (تونس، الأردن، لبنان). ومن خلالِ التعاونِ التعدينيّ الإقليميّ، يمكنُ بناءُ سلسلةٍ عربيةٍ متكاملةٍ: من التعدينِ والاستخراجِ، إلى التصنيعِ والتصْدير. هذا التكاملُ سيمنحُ المنطقةَ قوةً تفاوضيةً أعلى في السوقِ العالميّةِ، ويُعزّزُ مكانتَها كشريكٍ في التحوّلِ الصناعيّ المقبلِ الذي ننتقلُ فيه من عصرِ المعادنِ التقليديّةِ (النّفطِ والغازِ) إلى عصرِ المعادنِ الصعبةِ والنادرةِ والذكيةِ (المعادنِ النادرَة).
في عالمٍ يتغيّرُ بسرعةٍ، لا يمكنُ للدولِ العربيةِ أن تظلَّ رهينةً لاقتصاداتِ الماضِي. المعادنُ النادرةُ تمنحُ العالمَ العربيّ فرصةً فريدةً ليكتبَ فصلًا جديدًا في مسيرتِهِ التنمويّةِ، أي الفصلَ الذي يقومُ على العلمِ والعملِ والتكاملِ الإقليميّ. وإذا أُحْسِنَ استغلالُ هذهِ الفرصةِ، يمكنُ أنْ تكونَ السنواتُ المقبلةُ بدايةَ نهضةٍ صناعيةٍ عربيةٍ تجعلُ شبابَ المنطقةِ في قلبِ الاقتصادِ العالميّ الجَديد.
(خاص "عروبة 22")

