بصمات

إشكاليّةُ الجَدَلِ في العَقْلِ العربيّ!

في تاريخِ الحَضارَةِ، كان الجَدَلُ هوَ مِفْتاحُ النّهضةِ، فلمْ تَعْرِفْ البشريّةُ حضارةً واحدةً نَهَضَتْ من دونِ أن تسمحَ بالسّؤالِ، وتُصْغِيَ للاختلافِ، وتَحْتَفِيَ بالنَّقْد! وفي المُقابِلِ، كانتِ المُجْتَمَعاتُ التي تَرَى في السّؤالِ حُرْمَةً وفي الاختلافِ مَصْدَرًا للخطرِ والفَوْضَى، هي المجتمعاتُ الخاسرةُ، لأنَّها راكَمَتْ الصّمتَ وأَعادَتْ إنتاجَ الجُمودِ، وسَهَّلَتِ النِّفاقَ والتَّظاهُرَ بالانصياعِ للجماعةِ، ومن ثمَّ فقدْ وَأَدَتْ آراءَ المُبْدِعينَ، بل وطَرَدَتْهُمْ من الجماعةِ، فما لَبِثَتْ هذه المجتمعاتُ الجامِدةُ إلّا أنْ اسْتَيْقَظَتْ على انفجاراتٍ اجتماعيةٍ عنيفةٍ كانَ من المُمْكِنِ تَفادِيها لو كانَتْ قد عالجَتِ الاختلافاتِ وأسبابَ الانفجارِ بالحوارِ والجدلِ والانفتاحِ على الآراءِ المُخْتَلِفَة.

إشكاليّةُ الجَدَلِ في العَقْلِ العربيّ!

هُنا تَأْتي الإِشْكالِيَّةُ التي تُعاني مِنْها الكثيرُ من المُجْتَمَعاتِ العربيةِ، فَبَيْنَما كانَ الجَدَلُ هو ركيزةَ التَّحديثِ والتَّقَدُّمِ في المجتمعاتِ الغربيّةِ لأنَّهُ قادَ إلى التّحرُّرِ الفِكْريّ ومن ثمَّ إلى الإبداعِ عن طَريقِ مُراكَمَةِ الخِبْراتِ البَشَرِيَّةِ، فقد رَكَنَتْ نظيراتُها في العالمِ العربيّ المُعاصِرِ إلى إِجْبارِ الأصْواتِ المُختلفةِ على السّكوتِ، ومن ثمَّ ظَلَّ التَّحَرُّرُ العقليّ في السّياقِ العربيّ مصدرًا للارتباكِ والتَّخْوينِ، ولذلكَ فقد كَثُرَتْ مُحَرَّماتُنا السياسيةُ والدّينيةُ والمجتمعيةُ والثقافيةُ تحت دَعْوى وَأْدِ الفِتَنِ والتّمَسُّكِ بالثّوابِت!

لقد اعتمدتِ النهضةُ العلميةُ وعصرُ التَّنْويرِ في أوروبا في القَرْنَيْنِ السّابعَ عَشَرَ والثّامنَ عَشَرَ على الجدلِ كمنهجٍ للحياةِ، فلم تكنْ الجِدالاتُ مجرّدَ فلسفةٍ نظريةٍ تُمارَسُ على سبيلِ الرّفاهيّةِ، لكنَّها كانَتْ ماكينةً للتَّحَضُّرِ والنهضةِ الثقافيّةِ والعِلميةِ والسياسيةِ، فقد انْتَقَلَتْ فضيلةُ الجدلِ من الفردِ إلى الجماعةِ، ومن الدّينيّ إلى السياسيّ، ومن ثمَّ انْحَصَرَتِ المُحَرَّماتُ والمُقَدَّساتُ التي لا تُسْأَلُ ولا تُحاسَبُ، فكانتِ المساحاتُ المدنيةُ والعلمانيةُ للإبداعِ بلا حُدود!.

حينَما كَتَبَ إيمانويل كانط نصَّهُ الشهيرَ "ما هوَ التنويرُ؟"، فقد كانَ يَضَعُ عُنْوانًا لعصرٍ من التفكيرِ بِلا وِصايةٍ، ومن التساؤلِ بِلا خوفٍ، ومن النقاشِ بِلا عقوبةٍ، وَهَكَذا كانتْ تجربةُ التَّحَرُّرِ الأوروبيّ والغربيّ، فلمْ يَتَقَدَّمِ الأوروبّيونَ أو يَلْحَقوا بعصرِ التنويرِ والثوراتِ السياسيةِ والصناعيّةِ لأنَّهُمْ ذَوو جيناتٍ وِراثِيَّةٍ مُختلفةٍ عن غيرِهِم، ولكنْ لأنَّهُمْ أدركوا المفتاحَ للتقدّمِ البشريّ قبل غيرِهم، فَقَلَّلوا من مساحةِ المُقَدَّسِ الإلهيّ لصالح مساحةِ المُدَنَّسِ البَشَريّ، وهكذا تَخَلَّصَتْ أوروبا تدريجيًّا من الوصايةِ التي مارسَها رجالُ الدينِ والنُّبَلاءُ ورجالُ السياسةِ وَوُجَهاءُ المجتمعِ في القرونِ الغابِرَة!.

لم يجد السّاسة في السياق العربيّ أي مُعاناة لتكريس الخطابين الدينيّ والقبليّ من أجل فرض السلطوية

أمّا في التجربةِ العربيةِ، فعلى الرَّغمِ من التاريخِ المليءِ بالإبداعِ وعِلْمِ الكلامِ والمُناظَراتِ بِما فيها تِلْكَ التي مَيَّزَت التّاريخَ الإسلاميّ، إلّا أنَّ علاقتَنا بالجدلِ قدْ أخذتْ مُنعطفًا خطيرًا ومُثيرًا للأسفِ في العصرِ الحديثِ، حيثُ سادَ الخطابُ الدّينيّ الذي يَسْتَبْطِنُ موقفًا عِدائِيًّا للسؤالِ تحتَ دَعْوَى أَنَّهُ مؤامرةٌ تَهْدِفُ إلى هَدْمِ الثوابتِ والخروجِ عن "إجماعِ العلماءِ" الذين لا نعرفُ أين اجْتَمَعوا ولا كيفَ أَجْمَعوا! كما سادَ الخطابُ القَبَليّ الذي اسْتَبْطَنَ بدورِه موقفًا دفاعيًا أمامَ الخروجِ على الجماعةِ مُسْتَدْعِيًا نظريةَ "البقاءِ على قلبِ الرجلِ الواحدِ" لحمايةِ سُلطةِ القبيلةِ لا الأفرادِ، فَلَمْ يَجِدْ السّاسةُ في السياقِ العربيّ أيّ مُعاناةٍ حقيقيةٍ لتكريسِ كِلا الخِطابَيْنِ (الدينيّ والقبليّ) من أَجْلِ فرضِ السُّلْطَوِيَّةِ عن طريقِ قَمْعِ المُعارضةِ مُسْتَخْدِمينَ الأدواتِ الدّينيةَ والقبليةَ نفسَها المُعاديةَ للاختلافِ والمستدعيةَ على الفورِ لنظريّةِ المؤامرةِ تَوَجُّسًا من أيِّ مختلفٍ أو ناقِد!.

وَهَكَذا أخذتْ كُرَةُ الثلجِ في التَدَحْرُجِ، فانتقلَ المُحَرَّمُ الدّينيّ إلى المُحرّمِ الاجتماعيّ ومن ثمَّ إلى المُحرّمِ السياسيّ، فتحوّلَتْ كلُّ سياقاتِ حياتِنا العربيةِ المعاصِرةِ إلى كُتْلَةٍ صلبةٍ راسخةٍ من المَمْنوعات. ففي الإعلامِ العربيّ لمْ نَعُدْ نَرى حِوارًا بِقَدْرِ ما أَصْبَحْنا نشهدُ فَرْضَ رأيٍ واحدٍ تحتَ دَعْوى الضَّرورَة. وفي المدرسةِ والجامعةِ، لم تَعُدِ المُقَرَّراتُ الدراسيةُ مادةً للتفاعُلِ والنقدِ، بلْ تحوّلتْ إلى نُصوصٍ مُقدّسةٍ يجبُ استذكارُها وتقييمُها وفقًا لمدَى انصياعِ الطلبةِ إلى حفظِ النصِّ وترديدهِ بدلًا من تقييمهِ أو نقده. وفي الأُسْرَةِ، أصبحتِ التربيةُ قائمةً على مبدأِ الطاعةِ والانصياعِ للقراراتِ البَطْرِيرْكِيَّةِ بغضِّ النظرِ عن القناعَة. ومن هُنا، فقد انتقلتْ قداسةُ الدّين ورجالِهِ إلى قداسةِ الرؤساءِ والمُلوكِ والحكّامِ، ومنها إلى قداسةِ زعماءِ القبائلِ والعشائرِ والأُسَرِ الممتدّةِ، ثمَّ كانَتْ قداسةُ أساتذةِ الجامعةِ والمُدَرِّسينَ وأخيرًا إلى قداسةِ الآباءِ والأمّهات!

بسببِ التَّوَجُّسِ من السّؤالِ والجدلِ والنقدِ، أصبحَ كلٌّ منّا من دونِ أنْ يدريَ ديكتاتورًا مُصَغَّرًا في منطقةِ نُفوذِهِ، ومن هُنا فلمْ يعدْ من المُسْتَغْرَبِ أنَّ قطاعًا كبيرًا من حُكّامِنا ومُعارضينا ومثقّفينا ونُخَبِنا يُطالبُ بالديموقراطيةِ والحرّيةِ، بينما هوَ/هيَ لَيْسا أكثرَ من نُسَخٍ مُصَغَّرَةٍ ممّن ينتقدونَهُ وَيَدَّعونَ أنّهُم يُكافحونَ من أجلِ تَغْييرِه!.

مع غياب النقاش الجاد تغيب المُراجعة الذاتية ويستمرّ الإرث نفسه من الأخطاء من جيل إلى جيل

لَمْ يَعُدْ إسكاتُ الجدلِ أمرًا يمكنُ تَحَمُّلُهُ في زمنٍ يشهدُ انقلابًا كامِلًا في طرقِ المعرفةِ وتداوُلِ الأَفْكار. فاليومَ تختلطُ السلطةُ الرمزيّةُ بين جهاتٍ مُتعدّدةٍ: الدولةِ، والدّينِ، والعِلم، والإعلامِ، في مشهدٍ لا يتركُ مكانًا للمُجتمعِ الذي يصمتُ ولا يُحاوِر. مِثْلُ هذا المجتمعِ يُصبحُ سريعَ الانزلاقِ نحوَ التطرّفِ والقطيعةِ وفريسةً سهلةً للأخبار المُضَلِّلَة. ومع غياب النقاشِ الجادِّ، تغيبُ المُراجعةُ الذّاتيّةُ، ويستمرّ الإرثُ نفسُه من الأخطاءِ من جيلٍ إلى جيلٍ من دونِ تَوَقُّف. لَيْسَ صدفةً إذًا أنَّ أغلبَ الإصلاحاتِ المُؤَجَّلَةِ في العالمِ العربيّ - من إصلاحِ التعليمِ إلى تحديثِ الخطابِ الدّينيّ إلى بناءِ الدولةِ المدنيّةِ الديموقراطيّةِ - كُلُّها تتعثّرُ في اللّحظةِ التي يُطرحُ فيها السؤالُ النَّقْدي!.

الواقعُ أنَّ الجدلَ لَيْسَ خَصْمًا للاستقرارِ كما يُرَوَّجُ لهُ، بلْ هوَ الشرطُ الأوّلُ لمنعِ الفَوْضى. فالاختلافاتُ حين تُكَمَّمُ تُصبحُ قنابلَ مُؤَجَّلَةً، أمّا حينَ تُناقَشُ فَتَنْقَلِبُ إلى فُرَصٍ للتّوافُقِ وإعادةِ ترتيبِ الأَوْلَوِيّات. لم تتقدّمْ أوروبا لأنّها دَفَعَتِ الدّينَ أو الخلافاتِ خارجَ المشهدِ، بل لأنَّها فَتَحَتِ المجالَ لتحويلِها إلى نقاشٍ يَضْبُطُهُ القانونُ ويحميهِ تَعَدُّدُ الأصْوات. ولذلكَ، يُؤَكِّدُ جون ستيوارت ميل (John Stuart Mill) أنَّ عدمَ انحيازِ الأغلبيةِ لرأيٍ ما لا يبرّرُ قَمْعَهُ، وأنَّ حرّيةَ الرّأيِ لَيْسَتْ امتيازًا للصَّوابِ وحدِهِ، بل ضمانةً للخطأ أيضًا، لأنَّ الطريقَ نحوَ الحقيقةِ لا يُكْتَشَفُ إلّا عَبْرَ التجربةِ ومُحاولةِ الإضافةِ وإمكانيّةِ الوقوعِ في الزَّلَل!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن