في هَذا السِّياقِ، تَتَضاعَفُ المَخاطِرُ بسببِ التّشابُكاتِ القَبَلِيَّةِ والجِهَوِيَّةِ وتَعَدُّدِ الفاعِلين المَحَلّيينَ والإِقْليمِيّينَ، ما يجعلُ الهدنةَ الإنسانيةَ عمليةً حسّاسةً يمكنُ تَوْظيفُها لتعزيزِ المواردِ والقدراتِ العسكريةِ بدلًا من تخفيفِ المعاناةِ الإنسانيةِ للسودانيّين...
وَهَكَذا يكونُ تصميمُ هدنةٍ إنسانيةٍ فَعّالَةٍ تَحَدِّيًا مُرَكَّبًا يَتَطَلَّبُ التفكيرَ في السّياقِ السودانيّ بِوَصْفِهِ حالةً استثنائيةً لا يمكنُ تطبيقُ نَماذِجَ جاهزةٍ عَلَيْها. فالمشكلةُ لا تَكْمُنُ فقط في وقفِ إطلاقِ النّارِ، بَلْ في ضمانِ ألّا تَتَحَوَّلَ الهدنةُ إلى أداةٍ لتعزيزِ مواقعِ الأطرافِ العسكريةِ عَبْرَ إعادةِ التَّمَوْضُعِ أو فَتحِْ مَساراتِ الإِمْداد. وتُظْهِرُ الخبراتُ الدوليةُ أنَّ الفَشَلَ كانَ غالبًا بسببِ ضعفِ آلياتِ التَّحَقُّقِ وعدمِ وجودِ عقوباتٍ فَوْرِيةٍّ على الانتهاكاتِ، إضافةً إلى أنَّ الأطرافَ المُسَلَّحَةَ كانتْ تَعْتَبِرُ الهدنةَ فرصةً لالتقاطِ الأنفاسِ لا مَدْخَلًا نَحْوَ تَسْوِيَة.
أيّ هدنة لا تأخذ اتجاهات الرأي العام في الاعتبارِ سيُنظر إليها باعتبارها صفقة تخدم أطرافًا معيّنة على حساب المدنيّين
ومن الدروسِ المُفيدَةِ هُنا تجربةُ الهدنةِ في سوريا عام 2016، التي لمْ تَضَعْ آلياتِ مُراقَبَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ أوْ شَفّافَةٍ، فاستغلّتْها الأطرافُ لتعزيزِ مواقعِها وإعادةِ الانْتِشار. وفي اليمنِ، أَدَّى غيابُ الضَّبْطِ المُحْكَمِ للحدودِ البحريةِ والبريةِ إلى استمرارِ تَدَفُّقِ الأَسْلِحَةِ، ما جَعَلَ الهدنةَ بِلا أَثَرٍ حاسِمٍ على ديناميكِيَّةِ القِتال. وفي ليبيا، أَنْتَجَتِ الهدنة انْفِلاتًا في تَدَفُّقاتِ المُرْتَزَقَةِ من الجنوبِ، الأمرُ الذي زادَ المشهدَ تَعْقيدا. هَذِهِ التجاربُ تشيرُ إلى أنَّ الهدنةَ بلا رقابةٍ تِقْنِيَّةٍ، وبِلا توافقٍ سياسيٍّ، وبلا إطارٍ دوليٍّ ضاغطٍ، تتحوّلُ من أداةٍ للتّهْدِئَةِ إلى فرصةٍ لِتَعاظُمِ القوةِ المُسَلَّحَة.
أمّا في السودانِ، فَإِنَّ خطورةَ الوَضْعِ مُضاعَفَة. فالهشاشةُ المُجْتَمَعِيَّةُ الناتجةُ عنْ النزوحِ الواسعِ، وتآكلِ أَجْهِزَةِ الدولةِ، وانتشارِ السلاحِ، وانهيارِ الخدماتِ الأساسيةِ تجعلُ من أيِّ هدنةٍ حدثًا مُحاطًا بتوقعاتٍ اجتماعيةٍ عاليةٍ، وفي الوقت نَفْسِهِ مُحاطًا بمخاوفَ عميقةٍ من استغلالِها عَسْكَرِيّا. فالمجتمعُ السودانيّ، عَبْرَ تجربتِهِ الطويلةِ مع الحروبِ والحلولِ المُؤقَّتَة، أصبحَ أكثرَ حساسيةً لأيِّ ترتيباتٍ غير واضحةٍ أو لا تَتَمَتَّعُ بغطاءٍ شعبيٍّ واسِع. لِذا فَإِنَّ أيَّ هدنةٍ لا تأخذُ اتجاهاتِ الرأيِ العامِ في الاعتبارِ لَنْ تَحْظَى بِقَبولٍ، وَسَيُنْظَرُ إِلَيْها باعتبارِها صَفْقَةً تخدمُ أطرافًا مُعَيَّنَةً على حسابِ المَدَنِيّين.
قَدْ يكونُ أَحَدُ أَهَمِّ التَّحَدِّياتِ التي تواجهُ الهدنةَ الإنسانيةَ في السودانِ هوَ كثافةُ اقتصادِ الحربِ ومُرونَتُه. فوجودُ مواردَ تمويلٍ مستقلّةٍ عن مؤسّساتِ الدولةِ يمنحُ الأطرافَ قُدْرَةً على إعادةِ التَّسْليحِ حتَّى خلالَ فتراتَ التَّوَقُّف.
ارتباط الهدنة بمسار سياسيّ واضح ومُعلَن شرط أساسي لنجاحها
وَهَكَذا لا يمكنُ أن تنجحَ هدنةٌ إنْ لمْ تُرْفَقْ بِآلِيّاتٍ رقابيةٍ مُتعدّدةِ المُسْتَوَياتِ، تَشْمَلُ مُراقِبينَ دَوْليّين، وجهودًا مَدَنِيَّةً محلّيةً، وتقنياتِ مراقبةٍ عن بُعْدٍ مِثْلَ الأَقْمارِ الصناعيةِ والطائراتِ المُسَيَّرَةِ، مَعَ نَشْرِ تقاريرَ مُنتظمةٍ لتعزيزِ الشَّفافيَّة.
والشَّرْطُ الأساسيّ الآخرُ لنجاحِ الهدنةِ هو ارتباطُها بمسارٍ سياسيٍّ واضحٍ ومُعْلَن. فالهدنةُ التي لا تقعُ ضِمْنَ إطارٍ تَفاوُضيٍّ تُصْبِحُ بطبيعتِها تَجْميدًا مُؤقَّتًا للمعاركِ أكثرَ مِنْ كَوْنِها نقطةَ انْتِقال. في حينِ أنَّ الهدنةَ التي تَتَضَمَّنُ جَدْوَلًا زَمَنِيًّا دَقيقًا للمفاوضاتِ، والتقييمِ، وإعادةِ النظرِ في الالتزامِ، كَما تمنحُ الأطرافَ المُتَصارِعَةَ حوافزَ للالتزامِ وتُوَفِّرُ للمجتمعِ الدوليّ أداةً للضغطِ على الأطرافِ التي تَخْرِقُ الهدنةَ بِما يجعلُ استخدامَها لإعادةِ التموضعِ مُكْلِفًا، وهوَ درسٌ محوريٌّ من تجاربِ أنغولا ونيبال حيثُ كانَتِ العُقوباتُ جُزْءًا من أدواتِ رَدْعٍ فاعَلَة.
تبدو الهدنة الإنسانية جزءًا من معركة أكبر تتعلّق بإعادة تعريف قواعد اللّعبة السياسية والعسكرية
وَطِبْقًا لذلكَ، تُعَدُّ مشاركةُ المجتمعِ السودانيّ في تصميمِ وتنفيذِ الهدنةِ عُنْصُرًا غَيْرَ قابِلٍ للتّجاوُز. فالقبائلُ والإداراتُ الأهليّةُ واللجانُ المحليةُ هِيَ مَنْ تَمْلِكُ النفوذَ الحقيقيَّ في بعضِ المناطقِ، وهي الأَقْدَرُ على كشفِ التحرّكاتِ غير الطبيعيةِ وتنبيهِ مُراقِبي الهُدْنَة. حَيْثُ تُوَفِّرُ المشاركةُ الشعبيةُ غَطاءً اجتماعيًا للهدنةِ يَحُدُّ من قدرةِ الأطرافِ على استغلالِها. وتلعبُ هُنا حملاتُ التواصلِ الوطنيةِ دورًا مِحْوَرِيًّا في جَعْلِ الهدنةِ مشروعًا عامًّا، سيكونُ المجتمعُ المحلّيّ مهتمًّا بِرَصْدِ الخروقاتِ ومحاولاتِ التَّسْليحِ الجَديدة...
وبِالإمكانِ القولُ إِنَّهُ يمكنُ تَصَوُّرُ ثلاثةِ سينارْيُوات:
السيناريو الأولُ، نجاحُ الهدنةِ وتحوّلُها إلى مِنَصَّةٍ لبدءِ مفاوضاتٍ سياسيةٍ جادَّةٍ، وَهُوَ سينارْيو مشروطٌ برقابةٍ صارمةٍ وشفافيّةٍ وبناءِ ثقةٍ مُجْتَمْعِيَّة.
السّينارْيو الثّاني أنْ تُسْتَغَلَّ الهدنةُ لإعادةِ التموضعِ، وهو الأكثرُ احتمالًا في حالِ غيابِ آليّاتِ المُحاسَبَة.
أمّا السّيناريو الثالثُ فَهُوَ انهيارُ الهدنةِ سريعًا، مع خسائرَ كبيرةٍ على مُسْتَوى المدنيّين، إذا استمرَّتِ الخروقاتُ بِلا رَدْع.
في النهايةِ، تَبْدو الهدنةُ الإنسانيةُ في السودانِ جُزْءًا من معركةٍ أكبرَ تتعلّقُ بإعادةِ تعريفِ قواعدِ اللُّعْبَةِ السياسيةِ والعسكريةِ في البِلاد. فَهِيَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ خُطْوَةٍ إنسانيةٍ، بل مساحةُ اختبارٍ لِمَدَى قدرةِ الأطرافِ على خفضِ التصعيدِ، وَلِمَدى فاعليةِ الضغطِ الدوليّ، وأيضًا لِمَدى استعدادِ القُوَى الإقليميةِ لِلَعْبِ دورٍ مسؤولٍ، ولقدرةِ المُجتمعِ السّودانيّ على فَرْضِ إرادتِهِ ومراقبةِ مَسارِ الأَحْداث.
(خاص "عروبة 22")

