لم يجد روجر كوهين أحد الكُتّاب في "نيويورك تايمز"، أفضل من قرية باريشا في شمال سوريا، للكتابة حول زيارة أحمد الشرع إلى واشنطن. أجرى مقابلة سريعة مع أحد مزارعي الزيتون، وهو يسكن البيت المجاور للبيت الذي شهد العملية الأمريكية المهمة عام 2019، في الفترة الأولى لرئاسة ترامب، واستعاد معه دقائق تلك الليلة الرهيبة. عنون مقالته لاحقاً: "قرية سورية، وطريق طويل إلى واشنطن".
وورد فيها أنّ الرئيس ترامب قال: (لقد مات مثل الكلب)، في تعبير عن هوسه طوال فترة ولايته الأولى بالقضاء على البغدادي. “في ذلك الوقت، على بعد 25 ميلاً فقط جنوباً في مدينة إدلب، كان أحد مساعدي البغدادي السابقين، الذي عرفه في العراق، قد رسخ نفسه كزعيم محلي للمقاومة ضد نظام سوريا القمعي (السابق). بعد أن كلفه البغدادي بتوسيع تنظيم "القاعدة" في سوريا، انفصل عنه حوالي عام 2013، وبدأ تدريجياً، متقلباً بين التسامح والوحشية، في اتباع مسار أكثر اعتدالاً منذ عام 2016″.
استَشْهد كوهين برندا سليم الباحثة في معهد السياسة الخارجية التابع لجامعة جونز هوبكنز، التي قالت: "إنه تحول مذهل في الأحداث، عندما تفكر في أن ترامب قتل رئيس السيد الشرع ومعلمه السابق، البغدادي". وأضافت: "قصة الشرع لم تُكتب بعد. لقد جلب الأمل، ولكن هل سيصبح قمعياً؟". وقد أشارت مقالة "نيويورك تايمز" بدورها إلى "أن رحلة السيد الشرع من جهادي عاقد العزم على قتل الجنود الأمريكيين في العراق، إلى زعيم اليوم اللبق والأنيق والمتصالح، الذي يجذب إليه الدول في جميع أنحاء العالم، رحلة عظيمة لدرجة أن الأسئلة تُطرح حتماً حول مدى اكتمال هذا التحول حقاً".
استنتج كوهين كذلك أن السوريين- مثل جار البغدادي، الذي تناول طعاماً محلّياً لديه – أحسّوا بالحرّية وبأنّ عبئاً ثقيلاً قد انزاح عن صدورهم، بعد سنوات طويلة قاسية من الحرب. وقال إن ذلك الجار أجابه عندما سأله عن رأيه بالتحالف السريع التطوّر بين الرئيس وترامب، بأنّه “لا يريد أن يُعتقل إذا أجاب إجابة خاطئة". "اعتقال من قبل مَن؟" السيّد ترامب!. استنتج كوهين عندها أن حسّ الفكاهة يعود إلى سوريا. وتابع مقالته بوصف العملية، والراية البيضاء الكبيرة الخاصة بهيئة تحرير الشام على مدخل إدلب. ثم أشار إلى أن الرئيس الجديد "أكثر دراية بالأنظمة الاستبدادية منه بتقاسم السلطة"، وليس من الواضح أيّ اتجاه سياسي سيسلكه، على الرغم من كون مستوى الحرية في بلاده، مقارنةً بما كان عليه الوضع قبل أحد عشر شهرا يُثير دهشة أمثال مزارع باريشا.
أورد الكاتب أيضاً أن “السيد الشرع، بعد تخليه عن الفكر الجهادي، تعاون مع الولايات المتحدة في تقديم معلومات استخباراتية أدت إلى ملاحقة قادة تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة في محيط إدلب، وفقا لسفير غربي في دمشق، طلب عدم الكشف عن هويته، تماشيا مع الأعراف الدبلوماسية”. وبالفعل، تحتاج الزيارة إلى خلوة حتى ينظر المرء فيها، من دون أخطاء. رغم ذلك نتابع!
في استطلاع لبعض كبار المعلّقين الاختصاصيين، أجراه معهد راند للأمن القومي بعد سقوط الأسد بقليل، قالت آن ماري ديلي، الخبيرة الاستراتيجية الجيوبوليتيكية، إنه “منذ اندلاع الانتفاضة السورية في عام 2011، اشتكت تركيا من أن حلف الناتو لم يُدرك على ما يبدو حجم التهديد الإرهابي الذي يواجهها. علاوة على ذلك، أدى دعم الولايات المتحدة لوحدات حماية الشعب الكردية إلى توتر العلاقات بين البلدين. إن الوضع الراهن القلق في سوريا ينطوي على مخاطر وفرص في آن واحد؛ فالمخاطر تتمثل في إمكانية تحول سوريا إلى ملاذ آمن للإرهابيين على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وعلى مقربة من حدود الناتو، أما الفرص فتكمن في تحسين علاقات الولايات المتحدة وحلف الناتو مع تركيا، والتعامل مع إيران من موقع قوة نسبية، وإعادة تقييم القوات والمهام العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط.
ينبغي على الولايات المتحدة العمل مع تركيا، ومن خلال حلف الناتو لتطوير نهج أكثر استدامة وطويل الأمد تجاه الشرق الأوسط، بدلاً من الاقتصار على مواجهة تهديدات محددة في أماكن معيّنة، دون مراعاة الشواغل الجيوسياسية الأوسع نطاقاً”. وقد انعكست فكرة إمكان “تحسين” العلاقات مع تركيا تلك، في حضور وزير خارجيتها حقان فيدان، واجتماعه مع وزير الخارجية السوري بوجود ماركو روبيو وزير الخارجية الأمريكي، أثناء الزيارة.
من الضروري هنا الإشارة إلى الحدث الذي سبق الزيارة بقليل، وكان شرطاً لازماً لها، وهو صدور قرار مجلس الأمن رقم 2799. وقد رفع ذلك القرار كما هو معروف اسمي الرئيس الشرع ووزير داخليّته من قوائم الإرهاب، وهذا ما كان يهمّ الزائر والمُزار بالتحديد، إلّا أن ذلك القرار في الواقع لم يصدر إلّا بعد معالجات أمّنت طريقه وسهّلته.
في نهاية "الحيثيات" أو المقدّمة التي هي جزء لا يتجزّأ من القرار، وقبل مادّتيه الوحيدتين، قيل بطريقة قاطعة: "وإذ يتصرّف بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتّحدة". وقد أثار ذلك جدلاً متناقضاً تماماً، قال أحد طرفيه بشكل عبثي إنه يشمل أولئك الذين لن يطبّقوا القرار ويحذفوا الاسمين من قوائم الإرهاب (مَن؟)، وقال الآخر إنه يغطّي جسم القرار كلّه كما كان يفعل مع أيّ قرار آخر، سواء صدر تحت الفصل السادس أو السابع.
لن يكون في الحسبان أن ذلك التهديد الضمني يعني المادّة التي تذكر الاسمين، ولا المادّة الثانية الشكليّة التي تقول إن المجلس” يقرّر أن يبقي المسألة في نظره الفعلي”… ولا يبقى إلّا ماورد في مقدّمة القرار نفسها. يتضمّن ذلك ضمان وصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل (السويداء؟!)، ومكافحة الإرهاب بما يشمل المقاتلين الإرهابيين الأجانب، وتنظيم الدولة والقاعدة، “وما يرتبط بهما من جماعات ومؤسسات وكيانات”، وتلك الإشارة إلى المقاتلين الأجانب ثلاث مرات في جسم المقدّمة. نصّ أيضاً على حماية حقوق الإنسان لجميع السوريين "وسلامتهم وأمنهم"، ومكافحة المخدّرات، والنهوض بالعدالة الانتقالية- من كبوتها؟، إضافة إلى عملية سياسية شاملة يقودها السوريون ويمتلكون زمامها. "وإذ يتوقّع أن تفي الجمهورية العربية السورية بهذه الالتزامات المٌتعَهّد بها للشعب السوري بأسره بغضّ النظر عن العرق أو الدين".
كان القرار قد أشار في مطلعه إلى المبادئ والأهداف الواردة في القرار 2254 لعام 2015، وذلك يقطع بأنّ ذلك القرار لم ينتهِ مع سقوط النظام، وفرار الطاغية كما يُقال من قبل الذين يدفعون بالسلطة الجديدة إلى ورطاتها لمصالحهم وأهوائهم الخاصة، بل إنّه ما زال يحوي في جسمه ومنطقه الأسس اللازمة للخروج الفعليّ من عنق الزجاجة السورية الخانق. رغم ذلك، يُسجّل للسلطة الجديدة ابتعادها النسبي عن قمع حرّية التعبير، الأمر الذي يبقى أساساً لاحتمالات إيجابية للتقدّم إلى الأمام بشكل صحيح. على الرغم من تباطؤ مسار العدالة الانتقالية ومأسستها، وعلى الرغم ممّا شاب العديد من الخطى التي كان يُفترض أن تكون إيجابيّة وفي وقتها، مثل فتح الأبواب للنشاط السياسي وتنظيم الأحزاب ومشاركة التيارات السياسية بالرأي، فيما اتُّخذ من قرارات وتدابير. يُضاف هنا أنّ يكون تشكيل هيئة تشريعية فعّالة حقيقية من دون تشويهات، أو ادّعاء بوجود انتخابات حقيقية يختار بها الشعب ممثّليه.
قال روبيو منذ يومين، إن سوريا "مهددة بحرب أهلية شاملة إذا فشلت الحكومة الحالية"، وقال مركز ألما الإسرائيلي إن "احتمال دخول سوريا في حالة فوضى واسعة، وتعزيز تنظيم داعش وتمدّده، ونشوب صراعات مسلّحة وشاملة متعدّدة، لا تشمل مناطق المكوّنات وحدها، قد تكون من بين سيناريوهات اليوم التالي".
ما زال العالم متردّداً في تقييم الوضع السوريّ، وما زال السوريّون أنفسهم يتوقون إلى الإحساس بأن أقدامهم تقف على بداية الطريق بثبات وثقة، على الرغم من تحقيق الخطوة التي كانت مستحيلة لعقود، وهي الخلاص من الطغيان الأسدي، الذي حملت السلطة الانتقالية شرفه.. لكنّها إذا بقيت عند عناوين الأحداث وسطوحها وحسب، ستعيد إدخال سوريا في الدوامة، وربّما بشكل أكثر خطورة.
(القدس العربي)

