وجهات نظر

السويداء في عمق "الثورة الناعمة"

تختلف الآراء في الحراك الشعبي الحاضر في محافظة السويداء جنوب سوريا. لكن ثمّة توافق واتفاق على أهمية الحراك الذي يخوض في أنواع مختلفة من أنشطة تواجه نظام الأسد، تجمع بين التظاهر والاحتجاج والإضراب العام، وتقارب العصيان المدني، وتجعل الحراك على مستوى رفيع من التركيز على مطالب وأهداف محدّدة، مقرونة بالطابع السلمي لكلّ الأنشطة، وهو نهج يتوافق مع مسار طويل، سعت السويداء للالتزام به في تعاملها مع الثورة وتطوّراتها طوال الاثني عشر عامًا، أكدت فيها انخراطها في الثورة، دون أن تذهب في مسارات، ذهبت إليها اغلب المحافظات، شملت مواجهات شاملة وواسعة مع النظام الذي أصرّ على الذهاب إلى العنف الدموي في أقصاه، وجرّ إليه أغلب المحافظات بمدنها وقراها.

السويداء في عمق

لم تكن المحافظة في عاصمتها السويداء وعشرات مدنها وقراها بعيدة عن العنف في سنوات الثورة. فقد سعى النظام إلى جرّها إليه مباشرةً عبر تدخّلات وعمليات قامت بها مخابراته وقواته وعصابات إجرامه، أو عبر تحرّك أعوانه من أهاليها على قلّتهم، بل إنه دفع بعض أدواته في محيط المحافظة عبر عمليات استخبارية لافتعال صراعات بينية، وزجّ مليشيات "داعش" في مواجهات مع السويداء، وسكت عن التدخل الإيراني "الناعم" وميليشياته لتثبيت حضورهم في المحافظة، التي ردّت في أغلب الأحوال بشكل واضح ومدروس في أغلب الأحيان، فأظهرت موقف أهلها الحاسم في الصراع، ورفضت انخراطًا واسعًا في مسار الدم، مما حفظ للمحافظة وسكانها مكانةً في الثورة مع بقائها ملاذًا لمهجّرين من محافظات أخرى، وجعلها قادرة على فرض عدم زجّ المجنّدين من شبانها على جبهات القتال وفي عمليات اقتحام المدن والبلدات، والخروج بقدر أقلّ من الخسائر والدمار.

لم تكن تلك "الانجازات" إذا اعتبرناها كذلك، نتاج موقف وجهود أهالي السويداء فقط، بل كانت في أسبابها عوامل داخلية وخارجية، أبرزها ما يتّصل بالواقع السوري الذي يقدّم فيه النظام نفسه باعتباره "حامي الأقليات"، التي يصنّف السوريون الدروز بينهم بنسبة تقارب الثلاثة بالمائة من السكان، تتّصف بالتماسك الشديد، ولهم دور ملموس في تاريخ سوريا الحديث والمعاصر، وهم جزء من امتداد "أقلوي" موزّع في بلدان شرق المتوسط والشتات السوري، وكلّها منعت النظام من المضيّ إلى الأبعد في سياسة العنف ضدّهم مع سعى دائم بطرق أخرى لإخضاعهم، مما كان يجعلهم في جملة أسباب أخرى يجدّدون حراكهم في وجهه.

سبب الحراك سياسيّ من حيث تركيزه على ضرورة تغيير النظام

وإذا كان من غير الممكن نفي تأثير السياسات الاقتصادية والاجتماعية المدمّرة التي يتابعها النظام، وما تتركه من كوارث على السوريين في مناطق سيطرته ومنها السويداء، التي توصف بأنها من أقلّ المناطق سوريًا في الموارد وسياسات التنمية، فكانت سبب الفقر وصعوبات العيش، لكن لا يمكن أيضًا اعتبار ذلك سبب الحراك، وسط حقيقة معروفة خلاصتها، أنّ الاقتصاد تديره السياسة، وقد أكدت شعارات ومطالب المتظاهرين ووثائق الحراك وتصريحات الناشطين، أنّ سبب الحراك سياسيّ من حيث تركيزه على ضرورة تحقيق الانتقال السياسي وتغيير النظام، عبر الذهاب الى حلّ وفق القرار الدولي 2254، مما يعني تجاوز حالة الانسداد السياسي الذي صار إليه الحلّ السوري، ودعم ومساندة المساعي العربية والإقليمية الأخيرة لتحريك القضية السورية، وهي قضايا وموضوعات كانت محور جهد السوريين منذ انطلاق ثورة 2011.

لقد ذهب حراك السويداء إلى الأبعد في تأكيد طابعه السياسي في خطوة غير مسبوقة عبر رسالة، وجّهها المتظاهرون في ساحة الكرامة إلى مجلس الأمن والبرلمان الأوروبي، تناولت مختصرات القضية السورية، وسياسات النظام، ودوره في مقتلة وتهجير السوريين ودمار بلدهم بمعونة حلفائه، ووصفت النظام بأنه "نظام مارق" في تعامله مع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والقرارات الأممية، ويهدّد السلم العالمي، وله تاريخ حافل بجرائم ضد الإنسانية.

وخلصت الرسالة إلى مطالبة المجتمع الدولي "التحرّك لحماية السوريين ودعم مطالبهم المشروعة التي نصّ عليها القانون الدولي"، وضرورة "عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لوضع القرار 2254 تحت البند السابع" و"اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في حال استخدمت روسيا والصين حقّ النقض (الفيتو)"، و"طالبت باللجوء إلى الجمعية العامة لإصدار قرار بإنشاء محكمة خاصة بسوريا لمحاسبة جميع مجرمي الحرب والمجرمين ضد الإنسانية".

وإذ أكد حراك السويداء، أنه حراك سياسي لا اقتصادي مطلبي في محتواه، وحراك سوري في مطالبه وأهدافه وشعاراته وكرّسها في محتويات رسالته إلى المجتمع الدولي، فإنه تجاوز فكرة "المناطقية" و"الأقلوية"، ومشهده العام وفعالياته، وخطواته الإجرائية، التي اتخاذها المشاركون فيه، كل ذلك أبرز دلالات أخرى ذات أهمية، كانت أولاها المشاركة العامة والواسعة لسكان المحافظة في الفعاليات وخصوصًا للنساء، ومشاركة واسعة لممثّلي المدن والقرى في تظاهرة مركزية وغير مسبوقة بمدينة السويداء في الأول من أيلول، وثاني الدلالات، ذهاب الحراك باتجاه قطيعة شاملة مع النظام، وتنظيم حياة السكان في حدود احتياجاتهم الضيقة، وفي هذا السياق جرى إغلاق مكاتب حزب البعث الحاكم والتنظيمات السائرة في ركابه وبينها "اتحاد الشبيبة"، وإغلاق مكتب أعضاء مجلس الشعب في السويداء، وفرض الإغلاق الكامل أو الجزئي لمؤسسات الحكومة باستثناء مؤسسات الخدمات بينها المؤسسات الصحية والأفران والمدارس، وجرى تشكيل مجموعات مدنية في مناطق المحافظة للقيام بمهمّة مراقبة وحفظ الأمن لمنع اختراقات النظام وأجهزته.

حراك السويداء أدخل نظام الأسد دوائر الارتباك السياسي والأمني واضعًا إياه أمام خيارات صعبة

لقد رسم حراك السويداء ملامحه العامة في طبيعته وأهدافه وحاضنته، وقدّم رؤية في عموم القضية السورية وآفاق معالجتها، وحدّد أطرافًا يمكن أن تلعب دورًا أساسيًا في المعالجة، بل نبّه إلى ما يمكن اللجوء إليه من بدائل كي لا يعود الملف السوري إلى جموده وانسداداته، وقد خرقته مبادرات عربية وإقليمية حرّكت الملف وأعادته إلى دوائر الاهتمام.

وإذ ترك الحراك أثرًا إيجابيًا في مستويات داخلية وخارجية، تعزّز دوائر حمايته، وتراكم نقاط قوة تحفّز مساعي معالجة القضية السورية، فإنه أدخل نظام الأسد دوائر الارتباك السياسي والأمني واضعًا إياه أمام خيارات صعبة، تزداد صعوباتها في ضوء ما يحيط بالنظام من مشاكل، تفاقمت وجعلته عاجزًا عن فعل ما يرغب لأسباب سياسية أو لنقص في القدرات والإمكانيات.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن