إلى متى قد تستمر الحرب في أوكرانيا؟ كان هذا السؤال الذي جرت مناقشته وثار حوله الجدال في أثناء انعقاد ملتقى أقيم في باريس حديثاً، جمع مؤرخين وخبراء استراتيجيين من خلفيات مختلفة. أما الجواب الحقيقي، الذي لم يطرح في الملتقى، فكان سؤالاً آخر: كم يبلغ طول قطعة الخيط؟
بدأت المرحلة الحالية في فبراير (شباط) 2022 بما بدا أنه غزو روسي شامل، بينما لم يكن في حقيقة الأمر سوى تكملة لغزو واحتلال شبه جزيرة القرم عام 2014. وهذه الحلقة نفسها جاءت تكملة لعملية سياسية - عسكرية أخرى قبلها بعامين، هدفت إلى فرض دمية روسية في منصب رئيس أوكرانيا، مع تدفّق القوات الروسية إلى سيفاستوبول لإجبار كييف على توقيع عقد إيجار طويل الأمد لقاعدة جوية - بحرية روسية. وكل ذلك لا يعدو كونه جزءاً من التاريخ القريب.
الحقيقة أن مِحن أوكرانيا ومآسيها تتبعان نمطاً من التاريخ الأوروبي الأوسع، المتمثل في صراعات مسلّحة طويلة مثل حرب المائة عام وحرب الثلاثين عاماً. وفي قارة لطالما عصفت بها الصراعات الدينية والطائفية والعرقية والسلالية، كانت الحرب بمثابة القاعدة، بينما السلام الاستثناء. ولم تشرع أوروبا في الحلم بحروب قصيرة نسبياً إلا في القرن العشرين. وبناءً على ما تبدو عليه الأمور اليوم، قد يستمرّ الصراع في أوكرانيا لسنوات طويلة مقبلة. لقد أصبح هذا الصراع جزءاً من النمط العام للسياسات العالمية، بمعنى أن جميع الأطراف المعنية بشكل مباشر أو غير مباشر تمكنت من تقليل الأضرار التي يلحقها الصراع بمصالحها، مع تعظيم الفوائد الممكنة منه. ورغم الخسائر البشرية والمادية الفادحة، فإنه يبدو أن الطرفين الرئيسيين، روسيا وأوكرانيا، لا يزالان بعيدين عن عتبة الألم، التي قد تدفع أياً منهما لرفع الراية البيضاء.
في الواقع، لا يمكن لروسيا أن تكسب الحرب، لأن الرئيس فلاديمير بوتين غير مستعد ذهنياً لخوض تصعيد كبير يتطلب حشوداً ضخمة من الجنود على الأرض. وفي ظل تمسكهم بالحرب الجوية، خصوصاً عبر استخدام الطائرات المسيّرة، لا يستطيع الجنرالات الروس تحقيق الأهداف الكلاسيكية الثلاثة في الحروب: الغزو، والتطهير، والسيطرة. وحتى داخل نسبة الـ25 في المائة من الأراضي الأوكرانية التي جرى الاستيلاء عليها، لم يتحقق أي من هذه الأهداف الثلاثة بشكل كامل.
وحل مصير مماثل بالعملية العسكرية الخاصة في سوريا، فرغم سنوات من القصف العشوائي الذي حول كثيراً من المدن السورية إلى أنقاض وقتل عشرات الآلاف من المدنيين، لم يتمكّن بوتين من إحراز نصر، حتى ولو شكلياً. وفي الوقت نفسه، لا يمكن لروسيا أن تخسر هذه الحرب، لأن ذلك قد يعني كتابة نهاية بوتين و"البوتينية". أضف إلى ذلك أن الاحتمالات ضئيلة للغاية أن يظهر "مخلّص" فجأة في أوكرانيا يخلّص روسيا من ورطتها هناك بأقل خسارة ممكنة لماء الوجه، كما فعل أحمد الشرع في سوريا. ورغم التصريحات المتكررة من الرئيس فولوديمير زيلينسكي، فإن أوكرانيا هي الأخرى ليست في موقع يمكنها من توقيع شيك على بياض لبوتين، أو استعادة الأراضي التي فقدتها. وتستفيد الصين من النفط والغاز الروسيين بأسعار مخفضة، بينما توسّع نفوذها في آسيا الوسطى في ظل غياب منافسها التاريخي الروسي. أما الأوروبيون، فهم يستخدمون الحرب ذريعة لإطلاق عملية ضخمة لإعادة التسلّح، بينما تواصل روسيا النزف بالمعنى الحرفي والمجازي.
وجاءت إحدى الدلائل على أن الاتحاد الأوروبي يراهن على حرب طويلة الأمد، ما حدث هذا الأسبوع حين وقّعت فرنسا خطاب نوايا لتوريد ما يصل إلى 100 طائرة مقاتلة من طراز "رافال" لأوكرانيا. وبالنظر إلى أنه لا يمكن تصنيع هذه الطائرات وتدريب الطيارين الأوكرانيين عليها في أقل من ثلاث سنوات، يتضح أن باريس، على الأقل، تتوقع استمرار الحرب حتى عام 2029 على أدنى تقدير. ومع ذلك، ورغم قتامة هذا المشهد، فإن الحديث عن السلام أو على الأقل إنهاء الحرب لم يختفِت تماماً. وبحسب بعض المصادر الموثوقة عادة، فإن الولايات المتحدة، وبعد أن تخلّت عن فكرة عقد لقاء بين الرئيس دونالد ترمب وبوتين في بودابست، تعمل على إعداد إطار عام لمحادثات تهدف إلى وقف الحرب، لكن المقصود بهذا المصطلح لا يزال مبهماً.
ورغم ذلك، إذا سلمنا بوجود نهج يلتزمه ترمب، كما رأينا في كثير من الحالات الأخيرة لوقف النزاعات العسكرية، فربما تسعى الولايات المتحدة إلى حل وسط بين وقف إطلاق النار، الذي بحكم تعريفه مُحدد زمنياً ولفترة محددة، وسلام شامل ودائم قد لا يكون سهل المنال. ويمكن الترويج لهذا "الحل الوسط" بوصفه هدنة ـ مصطلح يتميز بمصداقية تاريخية ودبلوماسية كافية - لحفظ ماء وجه جميع الأطراف المعنية بتجميد الوضع على الأرض، ريثما يجري ترتيب مفاوضات حول سبل التوصل إلى تسوية دائمة، من دون الخضوع لمقصلة الزمن.
وفي سياق متصل، ثمة مؤشرات على أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ربما يكون قد جرى تكليفه باتخاذ بعض الخطوات اللازمة في هذا الاتجاه. ويبدو أن محادثات زيلينسكي الأخيرة مع إردوغان تدعم هذا الرأي، بينما رحّب بوتين هو الآخر بشكل غير مباشر بالتدخل التركي، ولو لدرء تهمة الخضوع لترمب. ورغم كل ما سبق، قد يتبيّن أن كل ذلك ليس سوى سراب سلام آخر. إلا أن هذا لا ينفي أن واشنطن تملك بالفعل ورقتين رئيسيتين، على الأقل، لإنجاز ذلك. تتمثل الورقة الأولى في تزويد أوكرانيا بصواريخ "توماهوك"، ظهرت في نشرات الأخبار وسرعان ما اختفت. وقد يُحدث قرار الدفع بصواريخ "توماهوك" في الحرب تغييراً جذرياً بها، تماماً على غرار قرار تسليح "المجاهدين" بصواريخ "ستينغر" في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي. ونظراً إلى تميزها بمدى يصل إلى 2.500 كيلومتر، ستضع هذه الصواريخ جميع أرجاء روسيا "المفيدة" تقريباً، بما في ذلك موسكو وسانت بطرسبرغ، في مرمى الهجمات الأوكرانية. (تبلغ المسافة من كييف إلى موسكو 762 كيلومتراً فقط).
أما الورقة الثانية التي قد يلعبها ترمب، فهي تجاهل تمديد الرئيس السابق جو بايدن لخمس سنوات لمعاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية (SALT)، التي أنهت سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي آنذاك، ما أنقذ الأخير من خسارة دبلوماسية وصعوبات اقتصادية. في الواقع، فإن الوضع الاقتصادي الروسي المتدهور حالياً سيجعل أي سباق تسلح جديد بوتيرة سريعة مكلفاً للغاية، إن لم يكن انتحارياً، لبوتين. وقد يُغري مخطط هدنة أميركي، أي وقف إطلاق نار سريع، بوتين لسبب آخر: حلمه القديم بفك الارتباط بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حتى في قضية بالغة الأهمية مثل الأمن الأوروبي.
مجرد سراب؟ ربما ـ لكن لا يُمكن استبعاده تماماً.
(الشرق الأوسط)

