يتخبط لبنان في أزماته السياسية والاقتصادية والأمنية، فيما تبدو طبقته السياسية عاجزة تماماً عن اجتراح أي حل لأي مشكلة، بسيطة كانت أو معقدة. بلد مثل بالون منفوخ بحاجة إلى دبوس ينفّسه أو ينفجر في أي لحظة. تهبط الأخبار السيئة من كل مكان، مترافقة مع استعار السجالات الداخلية الحادة حول كل شيء تقريباً، ولا تخفف من وطأتها بعض الأخبار والمعلومات النادرة عن مبادرات وخطوات إيجابية من هنا وهناك.
انتهت حرب إسرائيل على غزة لكنها لم تتوقف على لبنان، منذ إعلان وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، تواصل إسرائيل استهداف كوادر "حزب الله" ومواقعه، وحتى بيوت المدنيين في بيئته بزعم إيوائها نشاطات عسكرية وبنية تحتية للحزب.
لم تتوقف الحرب، تطوراتها الميدانية والسياسية تنذر بما هو أخطر وأوسع، فلا إسرائيل ترتدع ولا "حزب الله" في وارد التخلي عن السلاح. إنها العودة إلى نقطة الصفر واحتمال اندلاع حرب جديدة تشير إليها الوقائع الميدانية المتصاعدة والمستجدات السياسية من الإقليم إلى واشنطن، اللهم إذا صح ما يحكى عن صفقة تحضّر في الكواليس بين الولايات المتحدة وإيران راعية الحزب.
اعتمد الحكم اللبناني خلال عام سياسة "ضربة على المسمار وضربة على الحافر" في مواجهة القرار الدولي الحازم بنزع سلاح "حزب الله" وحصر السلاح بيد الدولة على كل الأراضي اللبنانية، لكنه اصطدم بإصرار إسرائيل على مواصلة اعتداءاتها اليومية وعدم تنفيذها بنود اتفاق وقف إطلاق النار والانسحاب من النقاط التي احتلتها في الشريط الحدودي ومنع سكان القرى الحدودية من العودة، وأيضاً بإصرار الحزب على تفسيره للاتفاق الذي يرى أنه لا يشمل السلاح شمال نهر الليطاني وأنه الوسيلة الوحيدة لمواجهة أي عدوان جديد. وهكذا وجد الحكم نفسه بين فكي كماشة، فك خارجي إسرائيلي أميركي وفك داخلي يتمثل في الثنائي الشيعي وبيئته.
لكن يبدو أن هذه السياسة لم تعجب الأميركي (وطبعاً الإسرائيلي) المستعجل على إنهاء هذا الوضع (بإنهاء حزب الله)، وكما فرض الرئيس دونالد ترامب على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقفاً للحرب في غزة وقبولاً لخطته للقطاع، يريد أن يفرض على لبنان نزع سلاح "حزب الله". ولا سبيل إلى ذلك الا ممارسة سياسة الضغوط القصوى. وقد اختار الجناح المتشدد حول الرئيس أن يضرب في النقطة الموجعة: الجيش اللبناني.
في خطوة ذات دلالة فائقة، ألغت واشنطن زيارة قائد الجيش اللبناني رودولف هيكل للولايات المتحدة، ولو بشكل غير مباشر، عبر إلغاء اللقاءات المهمة التي كانت مجدولة، ضربت في النقطة الحساسة والحيوية، في رسالة قاسية مفادها أن الجيش اللبناني مرتبط تسليحياً بالبنتاغون الذي يزوده بالسلاح والذخيرة بالقطارة وبما يؤهله للمهمات الداخلية فحسب، وأن وقف الدعم عنه قد يشل حركته في ظل عدم وجود مصادر تسليح أخرى وعدم قدرة الدولة أصلاً على شراء السلاح من أماكن أخرى. كأنما تريد واشنطن أن تقول للبنان اجعلوا جيشكم بلا عقيدة ووجهوه للقضاء على عصابات المخدرات والخارجين على القانون ( وحزب الله منهم بحسب الرؤية الاميركية التي تعتبر حزب الله منظمة إرهابية ).
القرار الأميركي معطوفاً على التصعيد الإسرائيلي الأخير ضد قرى جنوبية والحديث الإسرائيلي المتصاعد عن ضرورة توجيه ضربة للحزب، تصل إلى حدود اجتياح بري، يوحيان بأن شيئاً ما يطبخ في مراكز القرار المعنية بلبنان. وهذا ربما ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إرسال موفدته آن كلير لاجاندر إلى بيروت حاملة رسائل إلى المسؤولين اللبنانيين وقيادة "حزب الله" بخطورة الوضع وضرورة البحث الجدي في مخارج، وهي الرسائل نفسها التي كان موفدو ماكرون حملوها أثناء الحرب وقبلها محذرين من أن إسرائيل ستوسع عدوانها على لبنان.
ما زال لبنان مرتبكاً وحائراً في دخول العصر الأميركي، أو التملص منه، وفي الحالتين عليه أن يدفع الثمن.
(النهار اللبنانية)

