الحوكمة والديموقراطية

.. وَكَأنَّها انتِخابَات!

عَرَفَتِ النُّظُمُ الدّيموقْراطِيَّةُ انتخاباتٍ حقيقيةً بعضُها يمكنُ وَصْفُها بأنّها "انتخاباتٌ ناجحةٌ"، فَقَدْ شَهِدَتْ تنافسًا حقيقيًّا وتغييرًا وتداولًا سلميًّا للسلطةِ، وأخرى راكِدَةٌ تتميّزُ بالنَّزاهَةِ وحَكَمَتْها قواعدُ الانتخاباتِ الناجحةِ نفسُها، ولكنَّها تُبْقِي الحالَ على ما هو عليهِ فتتغيّرُ الوجوهُ لا السياساتُ، ويَحْدُثُ دَوَرانٌ شَكْلِيٌّ للنُّخبةِ لا يعكسُ أيَّ تَغَيُّرٍ في المضمونِ، وهناكَ أخيرًا الانتخاباتُ التي لَيْسَتْ بانتخاباتٍ والتي توصَفُ من قِبَلِ القائمينَ عَلَيْها بالانتخاباتِ وهيَ في الحقيقةِ مُهَنْدَسَةٌ مُسْبَقًا ومعروفٌ مَنْ سيفوزُ بِها قَبْلَ أنْ تَبْدَأ.

.. وَكَأنَّها انتِخابَات!

الحقيقةُ أنَّ النُّظُمَ الدّيموقْراطِيَّةَ تشهدُ انتخاباتٍ حقيقيةً، وتعرفُ تَنافُسًا بَيْنَ تياراتٍ سياسيةٍ مختلفةٍ وتداولًا سلميًّا للسلطة، ولكنَّها في بعضِ الأحيانِ تعرفُ انتخاباتٍ تُعيد إنتاجَ النُّخَبِ الحاكِمَةِ نفسِها بشكلٍ جَديد.

وقد بَلْوَرَتْ أوروبا في أعقابِ الحربِ العالميةِ الثانيةِ تَبايُنًا حقيقيًّا بين مَشْروعَيْنِ سياسيَيْنِ كبيرَيْنِ هُما اليَمينُ واليَسارُ، ولكنَّها عادَتْ في نهاياتِ القرنِ الماضِي وَعَرَفَتْ تَقَلُّصًا في درجةِ الاختلافِ بينهُما وأَصْبَحْنا نحتاجُ إلى عَدَساتٍ مُكَبِّرَةٍ لِمَعْرِفَةِ حُدودِ الفَوارِقِ بَيْنَهُما.

وَعادَتْ هذه الثنائيةُ وَأَخَذَتْ شكلًا جديدًا وتَنافُسًا أعمقَ بَيْنَ اليمينِ المُتَطَرِّفِ وأقصى اليَسارِ، وَكانَتْ فرنسا نَموذَجًا لهَذا الانقسامِ الجديدِ بَيْنَ حِزْبِ "التَّجَمُّعِ الوطنيّ" اليمينيّ المتطرّفِ وَبَيْنَ حزبِ "فرنسا الأَبِيَّةِ" في أَقْصَى اليَسارِ حولَ قَضايا جديدةٍ تَجاوَزَتِ التَبايُنَ حولَ التوجُّهاتِ الاقتصاديةِ وأصبحتْ تَتَركَّزُ على قَضايا الهِجرةِ والمُهاجِرينَ واحترامِ التَّنَوُّعِ الثّقافيّ والحَضارِيّ.

هَذا الخلافُ، على الرَّغمِ من عُمْقِهِ وتهديدهِ الكثيرَ من المُجتمعاتِ الغربيّةِ بالانقسامِ والعنفِ وحملاتِ التَّحْريضِ إلّا أَنَّهُ أعادَ الحَيَوِيَّةَ إلى النِّظامِ الديموقراطيّ وفَرَضَ عليهِ تَحَدِّياتٍ جديدةً وجعلَ الانتخاباتِ تَشْهَدُ تَنافُسًا حقيقيًّا وَخِلافًا عميقًا في الرُّؤَى بَيْنَ التيارَيْنِ، بحيثُ يمكنُ القولُ إنَّ وصولَ أقصَى اليسارِ إلى السلطةِ سَيَعْني تَحَوُّلًا في طريقةِ الحُكْمِ والسِياسَةِ الدّاخِلِيَّة. أَمّا وصولُ أقصَى اليمينِ إلى السلطةِ في أكثرَ من بَلَدٍ أوروبيٍّ كبيرٍ (وهو راجحٌ) فَسَيَعْني تَحَوُّلًا حقيقيًّا في النِّظامِ السياسيّ والعلاقةِ مع دولِ الجنوبِ وفي القَلْبِ مِنْها العَرَب.

انتخابات العراق حقيقيّة لكنّ المحاصصة الطائفية بقيت حاكمة وفشلت قوى الحراك الشعبي في أن تُغيِّر من معادلات الحُكم

أَمّا العالمُ العربيّ فقد شَهِدَ تقريبًا في التوقيتِ نفسِهِ تَجْرِبَتَيْنِ انتخابيتَيْنِ: الأُولَى في العراقِ والثانيةُ في مِصْر. وَقَدْ جَرَتِ انتخاباتُ العراقِ الأسبوعَ الماضِي في ظِلِّ اهتمامٍ عربيٍّ وعالميٍّ بمسارِها ونتائجِها، بحيثُ يمكنُ وصفُها بِأَنَّها انتخاباتٌ حقيقيّةٌ لا تعرفُ تزويرًا في صناديقِ الاقتراعِ وتُراقِبُها هيئاتٌ دوليةٌ وَتَشْهَدُ تنافسًا بَيْنَ أَطْرافِها، ولكنَّها تُعاني من مُشكلاتٍ تجعلُها انتخاباتٍ "غَيْرَ ناجحةٍ" لأنَّها تُعيدُ إنتاجَ القُوَى المُهَيْمِنَةِ نفسِها على منظومةِ الحُكْمِ العراقيّةِ مُنْذُ نَحْوَ 20 عَاما. فَقَدْ بَقِيَتِ المُحاصَصَةُ الطائفيةُ حاكمةً وفَشِلَتْ قُوى الحِراكِ الشّعبيّ العِراقيّ منذُ نحوِ 5 سنواتٍ في أَنْ تُغَيِّرَ من مُعادَلاتِ الحكمِ السّائدةِ، التي ظَلَّتْ تَتَنافَسُ فيما بَيْنَها في كلِّ انتخاباتٍ، حَتَّى لَوْ قاطَعَها تيارٌ مُهِمٌّ مَثْلُ التيارِ الصدريّ، وحتّى لوْ شَهِدَتِ البِلادُ تَحَسُّنًا في أداءِ نُخبتِها الحاكمةِ وفي أوضاعِها الأَمْنِيَّة.

أَمّا الانتخاباتُ المصريةُ فَهِيَ تُشْبِهُ الانتخاباتِ، ولكنْ تغيبُ عَنْها حتّى عناصرُ الانتخاباتِ غَيْرِ الناجحةِ التي تجعلُنا نقولُ إنّ هناكَ انتخاباتٍ، أيًّا كانَ تَوْصيفُها، إنّما هِيَ تشبهُ الانتخاباتِ أوْ تَبْدو كذلكَ، وَلَكِنَّها مَعْروفَةُ النتائجِ مِنْ قَبْلِ أنْ تَبْدَأَ ومعروفةُ المَعاييرِ التي حَكَمَتْ دخولَ أغْلَبِ الأعضاءِ إلى البَرْلَمَان.

صَحيحٌ أنَّ أساسَ النظامِ السياسيّ المِصريّ ظلَّ مُنْذُ إِعْلانِ التَّعَدُّدِيَّةِ المُقَيَّدَةِ في 1976 قائمًا على ضمانِ أغلبيةِ الثُلُثَيْنِ لحزبِ الدولةِ الحاكمِ، ولكنَّهُ لم يَحُلْ دونَ وجودِ انتخاباتٍ تنافسيةٍ حاميةٍ جَذَبَتْ قِطاعًا واسِعًا من المُواطِنينَ إلى المُشارَكَةِ في العمليةِ الانتخابيةِ نتيجةَ تنافسٍ سياسيٍّ بَيْنَ القُوى المدنيَّةِ والتَّيّارِ الإسلاميّ، أوْ بَيْنَ أحزابِ المعارضةٍ والحزبِ الحاكمِ، أو تنافسٍ بَيْنَ العائلاتِ مَنْزوعَةِ السِّياسَةِ في الكثيرِ من القُرى والنُّجُوع.

لا نندهش من العزوف الكبير عن الاهتمام بالانتخابات في مصر لأنّ أكثر من نصفها مُعيّن والباقي معروف النتائج

وَمِنْ هُنا سَنَجِدُ أنَّ مُختلفَ النظمِ السياسيةِ تَحْرِصُ على انتخاباتٍ تنافسيةٍ ولوْ محكومةٍ ومُحَدَّدَةٍ خطوطُها الحمراءُ من أَجْلِ جَذْبِ المُواطِنينَ للمُشارَكَةِ في مَسارٍ سياسيٍّ وانتخابيٍّ قانونيٍّ يُساعِدُ على الاستقرارِ، ويُخْرِجُ التّفاعُلاتِ التي تَجْري في بَطْنِ المُجْتَمَعِ إلى العَلَنِ، حتّى لَوْ لَمْ تُسْفِرْ هذهِ العمليةُ التنافسيةُ عن تَداوُلٍ سلميٍّ للسلطةِ، كما جَرَى في عَهْدِ الرّئيسِ حُسني مُبارك في مِصْرَ أو تُنْتِجُ المنظومةَ نَفْسَها كَما يَجْري في العِراق. إلّا أنَّها تعملُ على دَفْعِ المُواطنِ إلى المشاركةِ في الشأنِ العامِّ وفي القَضايا التي تَخُصُّهُ سواءٌ عن طريقِ اختيارِ مُمَثّليهِ في البرلمانِ أو في المَجالِسِ المَحَلِّيَّةِ والبَلَدِيَّة.

لا يوجدُ نظامٌ سياسيٌ في الدُّنْيا لا يَحْرِصُ عَلى جَذْبِ مُواطِنيهِ للمشاركةِ في المسارِ السياسيِّ والانتخابيِّ، حَتّى لَوْ كانَتْ هناكَ خطوطٌ حمراءُ لِهَذا المسارِ لا يُسْمَحُ بِتَجاوُزِها. وَلِذا، فَعَلَيْنا ألّا نَنْدَهِشَ من هَذا العُزوفِ الكبيرِ عَنِ الاهتمامِ بالانتخاباتِ في مصرَ لأنَّ أكثرَ من نِصْفِها مُعَيَّنٌ والبَاقِي مَعْروفُ النتائجِ مُسْبَقًا من "الكونْتْرولِ"، فَانْصَرَفَ الناسُ في الداخلِ والخارجِ عن مُتابَعَتِها. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن