كان أسبوعاً حامياً في سوريا التي لم تبرأ بعد من آثار الحرب الدموية التي مزّقتها خلال أكثر من عشر سنوات ولا تزال تمعن فيها طعناً وطحناً. من الساحل إلى حمص إلى السويداء، مشاهد متكرّرة لاضطرابات أمنية وجرائم قتل واعتداءات وصدامات مذهبية عنيفة وانتقامات وحشية وانفلات للغرائز والمواقف والشعارات الاستفزازية والتحريضية من جميع الأطراف.
من العبث الادعاء أن الحكم الجديد في سوريا قادر على إرساء دولة حقيقية ونظام مكتمل في خلال سنة من الوقت، ذلك أن حالة الانهيار التام لمقوّمات الدولة أكبر من قدرة أيّ مجموعة حاكمة على معالجتها في هذه الفترة القصيرة نسبياً. والحال أن النظام الجديد الحاكم لم يدّع هذه القدرة ولا وعد بحلّ سحري لمشكلة أكثر تعقيداً بكثير ممّا قد يظنه البعض.
تبدأ تعقيدات المشكلة السورية من التركيبة السكانية ذات الخلفيات الدينية والثقافية المختلفة والمتنافرة أحياناً مع الإرث التاريخي المثقل بالصراعات الطائفية والاجتماعية والسياسية ومخاضات دولة الاستقلال وحكم "البعث" ثم سيطرة آل الأسد على الدولة وأمنها واقتصادها، وحتى على ثقافتها، تحت غطاء القومية العربية وعلمانية مزعومة يعرف الجميع أنها كانت علمانية جزئية شكلية تُستخدم غبّ الطلب.
كان الانفجار متوقعاً في سوريا لأسباب اقتصادية وسياسية وطائفية وأمنية، وكان النظام يعرف ذلك، لكنه كابر ولم يقدّم التنازلات المعقولة لتلافيه. كان عنيداً ومتشبّثاً برأيه وواثقاً بقدرته على الانتصار مستنداً إلى دعم إيران المتشبثة بهيمنتها على ما سُمّي لاحقاً الهلال الشيعي الممتدّ من طهران إلى شواطئ لبنان.
من فجّر ومن تآمر ومن دعم من ومن استفاد ومن نهب ومن هرب... وكيف ولماذا؟ كلها أسئلة مشروعة كُتب الكثير في الإجابة عنها، ومن وجهات نظر متعددة ومتباينة أخفت الحقيقة أو حجبتها إلى حين، وسيأتي اليوم الذي تُكشف فيه كل الحقائق من دون أن يكون لذلك الكشف أيّ فائدة، فما مضى قد مضى.
مثلما فجرت التناقضات السورية الكامنة والظاهرة الحرب عام 2011 ها هي اليوم تشعل فتيلاً. لقد فعلت الحرب فعلها في عمق النفوس، ربما تكون الأحقاد اليوم أشدّ ممّا كانته عند اندلاع الحرب، لا داعي لتجميل الواقع وتنميق الكلمات. السوريون بعد الحرب أصبحوا يكره بعضهم بعضاً. يكره السنّة العلويين ويكره العلويون السنّة. ويكره الدروز العلويين والسنّة معاً ويكره السنّة الدروز... ويحاذر المسيحيون الدخول في السجالات الطائفية على قاعدة "ابعد عن الشر وغنيله" لكن من دون أن يستطيعوا تجنب شظاياه كلياً.
تفضح الأحداث المتنقلة ومواقع التواصل الاجتماعي كثيراً من السوريين الغارقين في طائفيتهم ومذهبياتهم، كما تفضحهم الشعارات العالية الصوت في التظاهرات والتحركات الميدانية. بلا خجل يطلق بعضهم دعوات إلى القتل، ويظهر بعضهم أنواعاً من الازدراء بالقيم الوطنية تصل إلى حدّ رفع صور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على سياراتهم داخل مدنٍ سورية فيما يشنّ جيشه اعتداءات يومية على مواقع سورية، ويتفاخر آخرون بتبعيتهم لقوى خارجية فيما يسعى بعضهم إليها ويتوسّلونها.
أسقطت الحرب وما تبعها من سقوط النظام وتطوّرات حرب الشرق الأوسط خلال العامين الماضيين كل الجدران والأفكار والمسلّمات الوطنية والأخلاقية، ودخلت سوريا في العصر الأميركي، وهو عصر لا يرحم ولا ضوابط له سوى المصلحة الأميركية والإسرائيلية، وهذه المصلحة لا تهمّها مصلحة سوريا والسوريين إلا بقدر ما يؤمّنه استقرار سوريا من فوائد للمصالح الأميركية والإسرائيلية. وهنا يخطئ من يعتقد من السوريين أنه أكبر من سوريا...
كل ذلك يكشف شدة الحاجة إلى نمط مغاير من التفكير، وهو ما قد لا يوفره الحكم الجديد الذي قام أساساً على التشدّد الديني والطائفي، ما يشكل حاجزاً أمام الانفتاح، فالتنظيمات الإسلامية المتشددة المنضوية في التحالف الحاكم لم تهضم بعد فكرة الانتقال من الثورة إلى الحكم، وما زالت تتصرف كميليشيا معارضة.
الوضع السوري معقد جداً، لا تنتهي الحروب الأهلية بسهولة، فلبنان، مثلاً، ما زال يعيش ذيول حربه الأهلية التي توقفت منذ 35 سنة انقساماً حاداً سياسياً وطائفياً. وكما في لبنان، كذلك في سوريا، يؤدي العامل الإقليمي دوراً كبيراً في تأجيج الصراعات ومنع التوافقات الداخلية، فكيف إن كان الحكم الجديد طريّ العود في الإدارة والسياسة في ظل أزمات اقتصادية هائلة؟
(النهار اللبنانية)

