مشروعُ الوحدة العربيّـة من هـذا الضَّـرب من المشاريع التي يُحتاج في إنجازها إلى مديـدِ وقـتٍ وكبيـرِ صَـبْـر، والتي يُحْـتاج إلى تمييز أيْـسَـرِ مسالكها من أَعْـسرِها. والقارئُ في محاولات تحقيقها يَـلْحظ أنّـها افـتـقـرت إلى السّـمَـتـيْـن المومَـأ إليهما (التّـدرُّجُ طويلُ المدى، واختيار المدخل المناسب)، فبـدَتْ متسّـرعـةً منساقـةً وراء منطق الاستعجال، من جهة، وذاهبـة في خياراتٍ ما كان لها أن تـفـتح أمام عمليّـة التّـوحيد أفـقًا جـدّيًـا من جهـةٍ ثانية. ونحن، هـنا، لا نَـقْـدَح في تلك المحـاولات - التي لها فضيلة المبادرة المبكِّـرة - بمقدار ما ننـبّه إلى المَـغَـبّة من خياراتٍ لم تَـعُـد تَـعِـدُ بحصادٍ سياسيٍّ جـزيل.
الأمم لا تـشُـدُّ رحالها إلى إطـار أعلى تـتّـحد فيه تكويناتُـها إلّا متى عثَرَتْ على مصلحةٍ لها في ذلك
ننطـلق من فرضيّـةٍ، في هـذا الباب، مبْـناها على فكرةِ أولويّـةِ الاقتصاديِّ ومركزيّـتِه في أيّ مسعًـى إلى التّوحيـد العربيّ؛ إذْ هـو المدخل إليه ومَـرْبـط الفرس الذي يفـتح النّـجاحُ فيه أفـقًا أمام ترجمة المُـنْجَـز الاقتصاديّ سياسيًّا، أي التّعبير عنه في عـلاقـةٍ سياسيّـة جديدة من طبيعـةٍ أفـقـيّـة، عابـرةٍ للكيانات السّياسيّـة العربيّـة القائمة، مجسِّـدةٍ للعلاقـة الاقتصاديّـة الاندماجيّـة. الوحـدةُ لحظةٌ نوعـيّةٌ متـقـدّمة تتحـصّل من تراكُـم سيروراتٍ ولحظاتٍ جزئـيّـةٍ تبدأ من الأدنـى وتـتّجـه إلى الأعلى: من التّعاوُن، والاعتماد المتبادَل، والتّـكامُـل، والشّراكـة، ثمّ الاندماج فالوحـدة. هذه سيرورةٌ موضوعيّـةٌ متّصلةُ الحلقات ميدانُها الرّئيـسُ المصالحُ الماديّـة: الاجتماعيّـة - الاقتصاديّة في المقام الأوّل. وهي، قطـعًا، سيرورة تـتـقـدّم غيرها من سيرورات التّـفاعُـل (سياسيّـة، أَمنيّـة...)، لأنّها وحدها التي يُـبْـنى على مكـتسباتها، ولا عمليّـة توحيـدٍ يمْتَـكـن أمرُها من دون رصيد تلك الحـلْـقات المتـدرِّجـة.
الانصراف إلى مشروعات التـعاون الاقتصاديّ والتّـكامُـل سيُسـهم في تعظيم المشتَـرَكـات وتقليص الخلافات
نحن العرب، في هـذا الشّأن، لا نُـحْـدِثُ بـدعةً ولا نعيد اختراع العربة. هـذه خبـرةٌ تاريخيّـة ثـريّـة راكمتها أمـمٌ عـدّة سبقـتـنا إلى الوحـدة منذ قـرنٍ وقرنين. وأكاد أن أذهـب إلى القـول إنّـه قانونٌ تاريخيّ - أو في حكم القانون التّاريخيّ - أن يكون الاقتصاديُّ أَسْـمَـنْـتَ كـلّ توحيـدٍ والمِدماكَ الذي عليه ينهض صرحُـه. ولقد يكون ذلك مُـبْـتَـدَهـًا تمامـاً؛ إذِ المجتمعاتُ والأمم لا تـشُـدُّ رحالها إلى إطـارٍ أعلى تـتّـحد فيه تكويناتُـها إلّا متى عثرتْ على وجوهِ مصلحةٍ لها في ذلك؛ والاقتصادُ وتعظيمُ المنافع هو مَـنَاطُ ذلك. وما قُـيِّـضَ لوحـدةٍ في التّاريخ الحديث أن تصمد في جـبْـه امتحانات الواقع فتغالِب كوابحها إلاّ متوسِّـلةً مكتسبات وحداتها الاقتصاديّـة التّـحتـيّـة.
حين يكون المدخـلُ الاقتصاديُّ إلى الوحدة هـو أَرْأَسَ المداخل جميعًا، فإنّ ذلك يرتِّـب نتيجتيـن بالِـغـتيْ الأهميّـة؛ أولاهما أنّ الانصراف إلى مشروعات التّـعاوُن الاقتصاديّ والتّـكامُـل سيُسـهم في تعظيم المشتَـرَكـات - وآكَـدُهـا المصالح - ويقـلِّـص من مساحات الخلافات السّياسيّـة أو يُخـفّـف من حـدّةِ وطأتها أَقَـلًّا؛ وثانيهما أنّ نطاق مَـن يجدون مصلـحةً في الوحـدة سيتّـسعُ مجتمـعًا ودولـةً، وأنّ جمهـورها الاجتماعيّ الذي سيحملها لن يكون - مثلما كان قـبْـلاً - من السّياسيّـين والحزبيّـين والمثـقّـفين، فحسب، بل أيـضًا من الاقتصاديّـين ومن رجال المال والأعمال. ولعمري هـذا موردٌ اجتمـاعـيّ غـنيّ من الموارد التي سيـتـغـذّى منها مشروع الوحـدة.
(خاص "عروبة 22")