وجهات نظر

مشهد من ذكريات رحيل عبد الناصر

قبل نحو ٤٦ عامًا، كنت ما زلتُ فتًى يافعًا عندما عشتُ ذلك المشهد الذي ختم أول رحلة طويلة أمضيُتها خلف جدران الزنازين، كنت وقتها مسجونًا مع المئات من الشخصيات الوطنية المرموقة في مصر، آنذاك، بتهمة التحريض على انتفاضة الشعب في ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧.

مشهد من ذكريات رحيل عبد الناصر

مشهد ختام هذه الرحلة بدأ عندما صدر قرار قضائي بالإفراج عني واثنين من زملائي، وأبلغونا صباح اليوم التالي بأن نلملم حاجياتنا لأنّ عربة ترحيل المساجين وصلت وتنتظرنا.

تحرّكت العربة بثلاثتنا وأخذت تلتهم الطريق إلى قلب القاهرة بينما نحن نترجرج فيها بعنف تحمّلناه برحابة صدر على أمل أنه مشوار العذاب الأخير قبل الحرية، ولم نكن نعلم أنّ تنفيذ قرار الإفراج مؤجّل للغد لأنّ هذا اليوم كان إجازة رسمية وكلّ شيء فيه معطّل بما في ذلك تنفيذ أحكام القضاء بالإفراج.

توقّفت العربة أخيرًا أمام بوابة سجن يقع في قلب القاهرة القديمة، وهو عبارة عن مكان احتجاز مؤقت يتكوّن من ثلاثة أقسام، أوّلها وأكبرها مخصّص للمساجين الرجال، والثاني للنساء، أمّا القسم أو الزنزانة الأصغر فهي مخصّصة للأجانب.

طبعًا كان نصيبنا السكن في زنزانة المصريين الرجال التي كابدنا فيها أسوأ ساعات رحلة السجن كلّها، قبل أن يأتينا الفرج في المساء بعدما رقّ قلب ضابط شاب لحالنا فقرّر نقلنا نحن الثلاثة إلى زنزانة الأجانب لكي نمضي فيها ساعات الليل.

حوار سياسي عميق تركّز على تحوّلات نظام السادات، وتأثيرها في الحال العربية والقضية الفلسطينية

استقبَلَنا سكّان الزنزانة الأصليون بحفاوة بالغة، وكانوا خمسة ليس فيهم أي عجمي سوى رجل يدعى "ميشا" من رعايا "جمهورية يوغسلافيا" وقتها، أمّا الأربعة الآخرون فقد كانوا شبانًا فلسطينيين ينتمون لتنظيمات مقاومة مختلفة.

تحلّق حولنا السكّان الأصليون مرحّبين، وبدأنا عملية تعارف سريعة، وتطوّع أحد قدامى النزلاء وعرّفَنا بـ"ميشا" اليوغسلافي وقدّمه لنا بوصفه "مناضلًا كبيرًا" في حركة تهريب المخدّرات العالمية!!

ضحكنا من القلب ثم سرعان ما انخراطنا نحن وباقي الرفاق الجدد في حوار سياسي عميق تركّز على الأوضاع السائدة في مصر وقتها والتحوّلات والانقلابات الحادة والعنيفة، اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، التي أحدثها نظام الرئيس السادات، وتأثير هذه التحوّلات في الحال العربية عمومًا والقضية الفلسطينية خصوصًا.

ولستُ أتذكّر الآن كيف تحوّل الحديث من الكلام الوصفي للحال، إلى البحث في أسباب تلك التحوّلات الكارثية، هنا قال واحد من مضيفينا يدعى "بسّام"، ما معناه أنّ بذور ما جرى كان راقدًا في أحشاء دولة عبد الناصر، فانبريت للردّ عليه، ثم انقسم رفاق الزنزانة إلى فريقين، أوّلهما قاده "بسّام" وبقي فيه وحده تقريبًا، والفريق الثاني لم أتزعّمه أنا بل سجين فلسطيني آخر قاد مع "ميشا" اليوغسلافي فريق المدافعين عن عبد الناصر والمنحازين لمشروعه الوطني التقدّمي!.

ظلّ الصراع الكلامي حارًا حتى تعِبَت أغلبية الرفاق وأخذوا ينسحبون من النقاش واحدًا إثر واحد.. وأخيرًا وجدنا نفسينا أنا و"بسّام" وحدنا، كلّ منا يتوسّل بالحجج نفسها التي قلناها بدل المرة مائة مرة حتى جاءت النهاية أخيرًا ونحن على عتبات فجر اليوم الجديد.

كآبة موجعة فاقَمَتْها مراسم الوداع.. بعضُنا إلى الحرية والبعضُ الآخر خلف أبواب السجن

حلّ الفجر وكلانا منهك جدًا فتوقّفنا عن الجدل، من دون أن نحفل بمَن غلب ولا مَن هو المغلوب، لكننا لم ننم كالآخرين بل غصنا كصديقين حميمين في كلام إنساني عذب، وبقينا نستمتع بهذا السمر اللذيذ حتى اقتحمت شمس النهار أرجاء "الزنزانة" وبدّدت عتمتها، وأفقنا على صوت رتاج الباب وهو يتحرّك مُحْدِثًا جلبة عظيمة، فلمّا انفرج الباب أطلّ علينا الحارس داعيًا المصريين الثلاثة لأن يستعدوا للرحيل.

وإلى الآن ما زلتُ أذكر كيف أنّ روحي غاصت لحظتها في كآبة موجعة فاقمتها مراسم وداع رفاق زنزانة قضينا معهم سويعات ليلة واحدة.. غير أنه لم يكن هناك مفرّ من قدر الفراق وحتمية أن يذهب بعضنا إلى الحرية ويبقى البعض الآخر خلف أبواب هذا السجن العتيق الذي ما أن عبرنا بوابته حتى قرع آذاننا صوت "بسام" يناديني أنا، وهو مشعلق في قضبان "الطاقة" التي يمرّ منها الضوء إلى "زنزانة الأجانب" وسألني إن كنتُ أسمعه؟ فلما جاوبته: نعم، قال: اهتُف معي يا صديقي.. عاش جمال عبد الناصر.. عاش جمال عبد الناصر.. انصعت وهتفت مع "بسام": عاش جمال عبد الناصر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن