صحافة

ما بعد "قيصر"... هل تخلّت واشنطن عن ازدواجية الخطاب واقتربت من الواقعية السياسية؟

باسل الحاج جاسم

المشاركة
ما بعد

على امتداد عقود طويلة، ظلت العلاقة السورية-الأميركية محكومة بمدّ وجزر، تتراوح بين المواجهة الصريحة والقطيعة الباردة، وبين لحظات نادرة من الانفراج التكتيكي سرعان ما تطوى تحت ضغط الحسابات المتغيرة، لكن منذ سقوط نظام الأسد، قبل عام، يشهد الإقليم تياراً مختلفاً، لا يشبه مراحل الماضي المرهقة، وما بدا في أشهره الأولى مجرد تبدل في النبرة الأميركية، تحوّل في الفترة الأخيرة إلى خطوات ملموسة، كان أبرزها تصويت مجلس النواب الأميركي على إلغاء قانون "قيصر"، أحد أشد أدوات الضغط التي أثقلت السوريين منذ سنوات.

اثنا عشر شهراً فقط مرّت على هذا التحول السوري المفصلي، لكنّها كانت كافية لتكشف أن واشنطن بدأت تتخلى عن ازدواجية لغتها التقليدية، وتقترب أكثر من خطاب واقعي يعترف بحقّ السوريين في إعادة بناء دولتهم على أسس وطنية، بعيداً عن مقاربات الأمن الضيقة التي حكمت سياستها منذ 2011. تلك السنوات التي رفعت خلالها الولايات المتحدة شعارات كبرى حول دعم تطلعات الشعب السوري، من دون أن تترجمها إلى مسار فعلي يخفف معاناته أو يدعم مشروعاً وطنياً جامعاً.

التحوّل الراهن لا يعني انقلاباً شاملاً في السياسة الأميركية، لكنّه يحمل دلالات لا يمكن تجاهلها، فاللغة الأميركية أصبحت أوضح، والمواقف أكثر صراحة، والأهم أن واشنطن بدأت تراجع قناعاتها التي جعلتها لعقد كامل تراهن على ميليشيا أمر واقع لا تمتلك امتداداً وطنياً، ولا تعبّر عن السوريين بقدر ما تعبر عن حسابات أميركية آنية.

وتحت ذريعة محاربة الإرهاب، وازنت الولايات المتحدة بين دعم المعارضة اللفظي من جهة، وتعزيز نفوذ مجموعات ذات مشروع انفصالي من جهة أخرى، فكان أن أُنهكت المعارضة الوطنية، وتعمق التشظي داخل المجتمع السوري، في وقت تمددت فيه تلك القوى الانفصالية، التي لا تؤمن بوحدة الأرض ولا بطبيعة الجمهورية العربية السورية. اليوم تغير الإطار، ولم تعد واشنطن تنشغل بفرض شروط مسبقة لا تجد طريقها إلى التنفيذ، ولا تتعامل مع دمشق الجديدة بوصفها ملفاً أمنياً يمكن تأجيله، بل صارت تتعامل مع القيادة السورية الحالية بقدر من الشرعية الواقعية، وتستمع إلى مخاوفها، وتبدي استعداداً لفتح صفحة مختلفة.

أما تصويت مجلس النواب لإلغاء “قيصر”، فيعكس للمرة الأولى انتقالاً من الأقوال إلى الأفعال، فالقانون الذي شكل رمزاً للعقاب الجماعي، كان منذ صدوره ورقة ضغط سياسية أكثر منه أداة لتحقيق الاستقرار أو دعم الحل السياسي، وإلغاؤه، إذا اكتمل مساره في المؤسسات الأميركية، سيكون خطوة مفصلية نحو كسر الحلقة العقابية التي عطلت أي محاولة لإعادة الإعمار أو التعافي الاقتصادي.

التصريحات الأميركية في الأشهر الأخيرة تؤكد هذا المسار، فوزير الخارجية يتحدث عن دعم استقرار سوريا الموحدة ذات السيادة، ومسؤولو البيت الأبيض يشيرون إلى مراجعة شاملة لنظام العقوبات بما يراعي الواقع الإنساني وضرورات المرحلة الانتقالية، وهذا الخطاب لا يشبه لغة السنوات الماضية التي اكتفت بإعلان خطوط حمراء دون فعل، ولا تشبه أيضاً المقاربة التي حملت السوريين إلى دائرة مغلقة، نظام يرفض الإصلاح، ومعارضة منهكة، ومليشيات انفصالية تتوسع تحت مظلة دولية. قد يرى البعض في هذا التحول خطوة ظرفية، فرضتها المتغيرات الإقليمية والدولية، من الحرب في غزة إلى التنافس الدولي المتصاعد، وقد يراها آخرون انعطافاً حقيقياً في منهج واشنطن تجاه سوريا.

لكن بغض النظر عن النيات، فإن المؤكد أن ما جرى خلال عام من الوضوح السياسي يفوق في مصداقيته معظم ما صدر عن الولايات المتحدة في العقود الأخيرة من غموض وتردد. وإذا كانت واشنطن قد أدركت أخيراً أن استقرار سوريا لا يبنى على رعاية كيانات منفصلة عن سياقها الاجتماعي، ولا على مقاربة أمنية منفصلة عن مسار الدولة، فإن على دمشق أيضاً إدراك أن اللحظة الحالية تحمل فرصة لا تهدر.

فالعلاقة بين البلدين قد لا تصل إلى مستوى التحالف أو التفاهم العميق، لكن يمكن البناء عليها لتأسيس علاقة متوازنة قوامها الاحترام المتبادل وعدم الإقصاء الدبلوماسي. هذه لحظة يمكن لسوريا أن تعيد فيها تموضعها الخارجي، وتثبت أنها شريك قادر على التفاهم، لا مجرد طرف في نزاع طويل. غير أن هذه النافذة ليست مفتوحة على الدوام، فالقرار الأميركي، مهما بدا ثابتاً في الوقت الراهن، يظل رهين تبدلات السياسة الداخلية الأميركية وتوازناتها الدولية.

وقد يتغير المزاج السياسي في أي وقت، أو تعود واشنطن إلى خطاب العصا والضغوط إذا تغيرت الحسابات، لذلك فإن الاستفادة من هذا الانفتاح تحتاج إلى رؤية سورية واضحة، تعيد تنظيم البيت الداخلي، وتعزز المؤسسات الوطنية، وتفتح المجال لعلاقات خارجية أكثر توازناً. في لحظة نادرة كهذه، يبدو أن أمام السوريين فرصة لالتقاط أنفاسهم والبدء بخطوات واقعية نحو التعافي، والرهان اليوم هو على تحويل هذا التحول الأميركي من محطّة عابرة إلى مسار مستمر، ولو بحدوده الدنيا، أما تأجيل الاستفادة منه، أو التعامل معه بوصفه ضمانة دائمة، فقد يعيد البلاد إلى الدائرة التي أنهكتها لسنوات.

يبقى القول: إن كسب الوقت، والبناء سريعاً على هذا الوضوح الأميركي غير المألوف، لم يعد ترفاً سياسياً، بل أصبح ضرورة وطنية لسورية الدولة ولسورية الشعب، قبل أن تغلق النافذة ويعود المشهد إلى متاهته السابقة.

(الثورة السورية)

يتم التصفح الآن