الأمن الغذائي والمائي

"الزِّراعَةُ المائِيَّة": طُرُقٌ مُبْتَكَرَةٌ لِلتَّغَلُّبِ على التَّصَحُّرِ وَنُدْرَةِ المِياه!

الزِّراعَةُ المائِيَّةُ هِيَ تِقْنِيَّةٌ تَعْتَمِدُ على زِراعَةِ النَّباتاتِ في أَحْواضٍ أَوْ أَوْعِيَةٍ مائِيَّةٍ من دونِ اسْتِخْدامِ التُّرْبَة، على أَنْ يَتِمَّ تَزْويدُ جُذورِ النَّباتاتِ بِالماءِ والعَناصِرِ الغِذائِيَّةِ الأَساسِيَّةِ عَبْرَ مَحاليلَ مُغَذِّيَة، بِحَيْثُ يَحْصُلُ النَّباتُ على احْتياجاتِهِ الغِذائِيَّةِ من دونِ التَّعَرُّضِ لِمُشْكِلاتِ التُّرْبَةِ من أَمْراضٍ أَوْ مُلوحَةٍ أَوْ تَدَهْوُرٍ في الخُصوبَة.

يَتَكَوَّنُ نِظامُ الزِّراعَةِ المائِيَّةِ عادَةً من عَناصِرَ أَساسِيَّةٍ عِدَّة، تَشْمَلُ خَزّانًا لِلمَحاليلِ الغِذائِيَّة، وَمُضَخّاتٍ لِضَخِّ المُغَذِّياتِ أَوْ تَدْويرِها، وَأَنابيبَ أَوْ أَوْعِيَةً توضَعُ فيها النَّباتات، وَكَذَلِكَ وَسَطًا مُثَبِّتًا لِلجُذورِ مِثْلَ "البيرْلايت" (Perlite)، وَمُسْتَشْعِراتٍ لِمُراقَبَةِ تَرْكيزِ العَناصِرِ الغِذائِيَّة.

وَجاءَ انْتِشارُ الزِّراعَةِ المائِيَّةِ عالَمِيًّا كَخِيارٍ اسْتراتيجيٍّ لِمُواجَهَةِ تَزايُدِ عَدَدِ السُّكّان، وَتَقَلُّصِ الأَرْضِ الزِّراعِيَّة، وَتَراجُعِ خُصوبَتِها، وَنُدْرَةِ المِياه، حَيْثُ أَصْبَحَتْ من أَهَمِّ مَشارِيعِ الأَمْنِ الغِذائيِّ في العَديدِ مِنَ الدُّوَلِ ذاتِ المَوارِدِ المَحْدودَة، في ظِلِّ تَراجُعِ مِساحَةِ الأَراضي الزِّراعِيَّةِ لِلفَرْدِ على مُسْتَوى العالَمِ بِنِسْبَةٍ تَزيدُ على 50% خِلالَ القَرْنِ الماضِي.

الزراعة المائية قد تُوفّر ما يتراوح بين 70 و90؜% من المياه

وَالميزَةُ الرَّئيسِيَّةُ لِلزِّراعَةِ المائِيَّةِ تَتَمَثَّلُ في الاسْتِغْناءِ عَنِ التُّرْبَة، حَيْثُ تَنْمو النَّباتاتُ في مَحاليلَ مائِيَّةٍ غَنِيَّةٍ بِالعَناصِرِ الغِذائِيَّة، مَعَ نُظُمِ تَحَكُّمٍ دَقيقَةٍ في العَناصِرِ الغِذائِيَّةِ وَدَرَجَةِ الحُموضَة، مِمّا يُعَزِّزُ النُّمُوّ.

كَما تُمَكِّنُ هَذِهِ التِّقْنِيَّةُ مِنَ الزِّراعَةِ على الأَسْطُح، وَفي البُيوتِ المَحْمِيَّة، والمَناطِقِ الصَّحْراوِيَّة، وَحَتَّى الأَراضي الصَّخْرِيَّةِ والمُرْتَفَعات، ما يُتيحُ فُرَصًا كَبيرَةً لِزِيادَةِ المِساحاتِ المُنْزَرِعَةِ من دونِ الحاجَةِ إلى أَراضٍ خَصْبَةٍ تَحْتاجُ إلى تَكاليفَ هائِلَةٍ لِلاسْتِصْلاح، كَما هِوَ الحالُ في الزِّراعاتِ التَّقْليدِيَّة.

وَتُفيدُ الدِّراساتُ بِأَنَّ الزِّراعَةَ المائِيَّةَ قَدْ تُوَفِّرُ ما يَتَراوَحُ بَيْنَ 70 وَ90؜ % مِنَ المِياه، نَتيجَةَ إِعادَةِ اسْتِخْدامِ المِياهِ التي تَحْمِلُ المَحاليلَ المُغَذِّيَة، كَما أَنَّها تُوَفِّرُ النِّسْبَةَ التي تَذْهَبُ لِلصَّرْفِ الزِّراعيِّ أَوْ تَتَسَرَّبُ لِلتُّرْبَةِ في حالَةِ الزِّراعَةِ التَّقْليدِيَّة، إِضافَةً إلى قُدْرَتِها على تَحْقيقِ إِنْتاجٍ مُسْتَمِرٍّ وَعالي الجَوْدَة، نَتيجَةَ عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلآفاتِ والأَمْراضِ المُرْتَبِطَةِ عادَةً بِالتُّرْبَة، مِمّا يُقَلِّلُ الحاجَةَ إلى المُبيداتِ التي تُؤَثِّرُ على جَوْدَةِ المُنْتَجاتِ وَسَلامَتِها.

تكتسب الزراعة المائية أهمية خاصة للمنطقة العربية التي تُعاني من محدوديّة الأراضي الخصبة وندرة المياه

وَتَسْمَحُ تِقْنِيّاتُ الزِّراعَةِ المائِيَّةِ بِزِراعَةِ النَّباتاتِ في طَبَقاتٍ عَمودِيَّةٍ فَوْقَ بَعْضِها، مِمّا يُضاعِفُ مِنَ المِساحَةِ الحَقْلِيَّة، بِالإِضافَةِ إلى إِمْكانِيَّةِ الزِّراعَةِ الكَثيفَةِ لِلعَديدِ مِنَ المَحاصيل، مِمّا يَزيدُ مِنَ الإِنْتاجِيَّةِ أَيْضًا وَيُوَفِّرُ مُنْتَجاتٍ طازَجَةً لِلسُّكّانِ داخِلَ نِطاقِ المُدُنِ من دونِ الحاجَةِ إلى نَقْلِها إلى أَماكِنَ بَعيدَة. وَمن أَبْرَزِ الأَمْثِلَةِ على ذَلِكَ هولَنْدا وَسِنْغافورَة واليابان، التي تُعْتَبَرُ من أَكْبَرِ الدُّوَلِ المُنْتِجَةِ لِلغِذاءِ على الرَّغْمِ من صِغَرِ مِساحَةِ أَراضِيها.

فَلَقَدْ أَصْبَحَتِ المُدُنُ الحَديثَةُ في تِلكَ الدُّوَلِ تَعْتَمِدُ على الزِّراعَةِ الرَّأْسِيَّةِ والزِّراعَةِ فَوْقَ الأَسْطُح، لِتَقْليلِ البَصْمَةِ الكَرْبونِيَّة، بِما يَتَماشى مَعَ التَّوَجُّهاتِ الدَّوْلِيَّةِ الرّامِيَةِ إلى تَوْفيرِ الغِذاءِ والحِفاظِ على البيئَة.

وَأَغْلَبُ المَحاصيلِ الصّالِحَةِ لِلزِّراعَةِ المائِيَّةِ هِيَ مِنَ الخُضْراوات، خاصَّةً الوَرَقِيَّة، وَبَعْضُ المَحاصيلِ الزَّيْتِيَّةِ وَالوُرود.

وَتَكْتَسِبُ الزِّراعَةُ المائِيَّةُ أَهَمِّيَّةً خاصَّةً بِالنِّسْبَةِ لِلمِنْطَقَةِ العَرَبِيَّة، نَظَرًا لِأَنَّ مُعْظَمَ دُوَلِها تُعاني من مَحْدودِيَّةِ الأَراضي الخَصْبَة، وَنُدْرَةِ المِياه، والتَّغَيُّراتِ المُناخِيَّة، وَانْتِشارِ الأَراضي الصَّحْراوِيَّة، وَقَسْوَةِ الطَّقْسِ في الكَثيرِ من دُوَلِ المِنْطَقَة، حَيْثُ جَعَلَتْ تِلكَ الظُّروفُ الزِّراعاتِ التَّقْليدِيَّةَ غَيْرَ كَافِيَةٍ لِتَلْبِيَةِ الطَّلَبِ المُتَزايِدِ على الغِذاء.

وَبِالفِعْلِ، تَشْهَدُ المِنْطَقَةُ العَرَبِيَّةُ اهْتِمامًا واسِعًا بِالزِّراعَةِ المائِيَّة؛ فَعلى سَبيلِ المِثَال، اسْتَخْدَمَتِ المَمْلَكَةُ العَرَبِيَّةُ السَّعودِيَّة وَدَوْلَةُ الإِماراتِ الزِّراعَةَ المائِيَّةَ الرَّأْسِيَّةَ لِإِنْتاجِ الخُضْراواتِ والفَواكِهِ في المَناطِقِ الصَّحْراوِيَّةِ غَيْرِ القابِلَةِ لِلزِّراعَةِ التَّقْليدِيَّة، حَيْثُ تُقَدِّرُ تَقاريرُ بِأَنَّ في الإِماراتِ أَكْثَرَ من 200 مَزْرَعَةٍ مُعْتَمِدَةٍ على الزِّراعَةِ المائِيَّة، من بَيْنِها مَزْرَعَةٌ في دُبَيْ تُنْتِجُ حَوالَيْ مِليونِ كيلوغْرامٍ مِنَ الخُضْراواتِ الوَرَقِيَّةِ سَنَوِيّا.

كَما بَدَأَتْ مِصْرُ في مَشاريعِ الزِّراعَةِ المائِيَّةِ في مَناطِقَ مُتَعَدِّدَة، وَحَقَّقَتْ نَجاحًا كَبيرًا في إِنْتاجِ الخُضْراواتِ والمَحاصيلِ الوَرَقِيَّةِ بِكَفاءَةٍ أَعْلى مِنَ الطُّرُقِ التَّقْليدِيَّة.

وَنَفَّذَتْ كُلٌّ مِنَ الأُرْدُنِّ والبَحْرَيْنِ وَقَطَرَ والكُوَيْتِ وَسَلطَنَةِ عُمانَ العَديدَ من مَشاريعِ الزِّراعَةِ المائِيَّةِ في المَناطِقِ الحَضَرِيَّة، التي ساعَدَتْ على إِنْتاجِ العَديدِ مِنَ المَحاصيلِ التي وَفَّرَتِ الغِذاءَ مَحَلِيًّا وَقَلَّلَتْ من فاتورَةِ الاسْتيراد. وَمن أَهَمِّ تِلكَ المَحاصيلِ: الخَسّ، والسَّبانِخ، والطَّماطِم (البَنَدورَة)، والخِيار، والفِلفِل، والفَراوْلَة، والرَّيْحان، والنَّعْناع، والتي تَمَيَّزَتْ بِسُرْعَةِ النُّمُوِّ وَقِصَرِ دَوْرَةِ الإِنْتاج، كَما أَنَّها حَقَّقَتْ إِنْتاجِيَّةً عالِيَةً لِكُلِّ مِتْرٍ مُرَبَّعٍ مُقارَنَةً بِالزِّراعاتِ التَّقْليدِيَّة.

هناك ضرورة لوضع سياسات حكومية وتشريعات تدعم المزارعين وتجذب المستثمرين إلى مشاريع الزراعة المائيّة

مِنْ هُنا يَتَبَيَّنُ أَهَمِّيَّةُ الزِّراعَةِ المائِيَّةِ كَخِيارٍ اسْتْراتيجيٍّ لِلمِنْطَقَةِ العَرَبِيَّة، يَعْمَلُ على زِيادَةِ الرُّقْعَةِ الزِّراعِيَّةِ من خِلالِ تَقْليلِ الضَّغْطِ على الأَراضي الزِّراعِيَّةِ التَّقْليدِيَّة، وَيُتيحُ تَخْصيصَها لِمَحاصيلَ اسْتْراتيجِيَّةٍ مِثْلَ القَمْحِ والذُّرَةِ والأَرُزّ، التي لا تَصْلُحُ لِلزِّراعَةِ المائِيَّة.

وَعلى الرَّغْمِ من أَهَمِّيَّةِ الزِّراعَةِ المائِيَّة، إِلّا أَنَّ هُناكَ بَعْضَ التَّحَدِّياتِ التي تُواجِهُ التَّوَسُّعَ فيها، وَمن أَبْرَزِها تَكاليفُ الإِنْشاءِ الأَوَّلِيَّة، وَنَقْصُ المَهاراتِ الفَنِّيَّةِ المُتَقَدِّمَةِ لِإِدارَةِ وَتَشْغيلِ هَذِهِ النُّظُمِ بِكَفاءَة، بِالإِضافَةِ إلى الحاجَةِ إلى البُحوثِ العِلمِيَّةِ المُتَطَوِّرَةِ حَوْلَ التَّحَكُّمِ البيئيِّ داخِلَ الزِّراعاتِ المائِيَّة، وَتَوْفيرِ المَحاليلِ الغِذائِيَّةِ المُتَوازِنَةِ لِلنَّباتات، مَعَ اسْتِخْدامِ المُسْتَشْعِراتِ لِمُراقَبَةِ مُسْتَوَياتِ المُغَذِّياتِ لِلنَّباتات، التي تُساهِمُ في تَحْسينِ نُمُوِّ وَجَوْدَةِ هَذِهِ المُنْتَجاتِ الزِّراعِيَّة.

وَلِلتَّغَلُّبِ على تِلكَ التَّحَدِّيات، يَجِبُ زِيادَةُ الِاسْتِثْماراتِ في هَذا المَجالِ الواعِد، والتَّعاوُنُ بَيْنَ الجامِعاتِ والمُؤَسَّساتِ البَحْثِيَّةِ العَرَبِيَّة، بَل وَقَدْ يَكونُ هُناكَ حاجَةٌ لِإِنْشاءِ مَرْكَزِ بَحْثٍِّ عَرَبيٍّ مُتَخَصِّصٍ في الزِّراعَةِ المائِيَّة.

كَما أَنَّ هُناكَ ضَرورَةً لِوَضْعِ سِياساتٍ حُكومِيَّةٍ وَتَشْريعاتٍ تَدْعَمُ المُزارِعِينَ وَتَجْذِبُ المُسْتَثْمِرينَ إلى مَشاريعِ الزِّراعَةِ المائِيَّة، بِما يُتيحُ التَّنَوُّعَ في النُّظُمِ التِّقْنِيَّةِ الزِّراعِيَّةِ الحَديثَة، لِمُواجَهَةِ مُشْكِلاتِ التَّصَحُّرِ وَنُدْرَةِ المِياه، وَلِتَحْقيقِ الأَمْنِ الغِذائيِّ المُسْتَدامِ في المِنْطَقَةِ العَرَبِيَّة.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن