صحافة

من الأزمة إلى التنسيق..الدبلوماسية العربية الجماعية

عمرو حمزاوي

المشاركة
من الأزمة إلى التنسيق..الدبلوماسية العربية الجماعية

لم تتطور الدبلوماسية الجماعية العربية فى فراغ، فقد جاء ظهورها بعد 7 أكتوبر 2023 نتيجة للضرورة، حيث واجهت الدول الرئيسية ثلاث حقائق جديدة إشكالية.

أولاً، أشارت الإجراءات الإسرائيلية إلى تحدٍّ غير مسبوق للنظام الإقليمي. لم يكن الدمار غير المسبوق، والخسائر فى صفوف المدنيين، والنزوح القسرى وحدها هى التى حفزت النخب السياسية. فحتى حملات مكافحة الإرهاب والعمليات العسكرية القاسية في الماضي قوبلت بالإدانة اللفظية والوساطة. لكن المخاوف تزايدت من أن العقيدة الإسرائيلية قد تغيرت بطرق من شأنها أن تهدد العمليات العسكرية باضطرابات أوسع نطاقاً، إذ امتدت إلى الضفة الغربية، وأدت إلى تبادل متكرر للاشتباكات عبر الحدود مع لبنان، وهددت بجرّ سوريا والعراق إلى مواجهة أوسع.

ثانياً، شهدت الفترة التي أعقبت أكتوبر 2023 تسارعاً ملحوظاً فى نشاط حلفاء إيران في لبنان والعراق وسوريا واليمن. ورغم أن إيران لم تسعَ إلى حرب إقليمية شاملة، فقد استغلت شبكة حركات اللا دولة المسلحة المتحالفة معها الصراع في غزة كفرصة استراتيجية للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة، ما أدى إلى توسيع جبهات الصراع. ولم يهدد انتشار الهجمات على الممرات الملاحية، وإطلاق الصواريخ من جبهات متعددة، وتعبئة الميليشيات إسرائيل فحسب، بل هدد أيضاً البنية التحتية للطاقة في الخليج، وحركة التجارة في البحر الأحمر، والأمن الداخلي لعدد من الدول العربية.

ثالثاً، كان النشاط الدبلوماسي العربي جزئياً ردَّ فعل على النهج السياسي الأميركي المتضارب وغير الفعّال فى نهاية المطاف بين أكتوبر 2023 وأوائل 2025. فبينما كانت الولايات المتحدة تُلمّح لعقود إلى تقليص دورها الإقليمي، بدت الآن غير جديرة بالثقة وغير فعّالة أيضاً. فعلى الرغم من اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة في التسلح، فشلت واشنطن فى فرض وقف دائم لإطلاق النار أو كبح العمليات العسكرية المفرطة أو صياغة رؤية نهائية موثوقة للدولة تُدمج حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وعلى الصعيد الإقليمي، لم تُردع الضمانات الأمنية الأميركية التصعيد، ولم تمنع الهجمات البحرية فى البحر الأحمر أو تصاعد التوترات في لبنان. وبالنسبة للعديد من الحكومات العربية، أبرز هذا الأمر حدود الاعتماد الذي دام عقوداً على إدارة الأزمات الأميركية، وسلّط الضوء على الحاجة إلى أطر سياسية عربية مستقلة.

لكن مهما بلغت الحاجة، لم تكن لدى الدول العربية الرئيسية آليات حقيقية لملء الفراغ الذي خلفته الدبلوماسية الأميركية غير الفعّالة. يُعدّ الشرق الأوسط حالة استثنائية على الصعيد العالمي لافتقاره إلى هياكل رسمية للحوار والتنسيق الدبلوماسي. فكل عملية ظهرت تاريخياً كانت مرتجلة ومصممة خصيصاً لقضية معينة، كالحروب الأهلية التي عانت منها سوريا وليبيا واليمن، أو قضايا السلام والأمن فى فلسطين ولبنان. وانصبّ جزء كبير من الجهد الدبلوماسي على إدارة من يمكنه المشاركة، وكيفية إجراء الحوار بين أطراف ترفض التعامل علناً مع بعضها البعض أو حتى الاعتراف بشرعية بعضها.

تتغير العقبات التي تعترض التنسيق على مر العقود، لكنها تبقى قوية.

أولاً، كانت هناك انقسامات أيديولوجية حادة، اتخذت أحياناً شكلاً لا يقتصر على الخلافات العميقة فحسب، بل يشمل محاولات التأثير على السياسة الداخلية في الدول المنافسة، بل وحتى رعاية حركات المعارضة. ففي أواخر الخمسينيات والستينيات، تمحورت هذه الانقسامات حول القومية، وأفكار الوحدة العربية، والملكية، والاشتراكية؛ ومنذ عام 2000، انصبّ تركيزها على الإسلام السياسى والإصلاح الديمقراطي.

ثانياً، تمحورت المنافسات حول التحالفات مع القوى الخارجية، حيث ندد القادة العرب ببعضهم البعض بسبب علاقاتهم مع الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد السوفييتي، وإيران، وتركيا، أو ببساطة بسبب النزعة الإمبريالية.

ثالثاً، وضعت المصالح الاقتصادية، والهياكل السياسية، والتوجهات الدبلوماسية، والتركيبة السكانية للدول المختلفة فى مواقع متباينة بشكل كبير، لا سيما بعد سبعينيات القرن الماضي. فبينما لم تكن هناك منافسة حقيقية في كثير من الأحيان، فإن أولويات الإمارات العربية المتحدة أو قطر تختلف اختلافاً كبيراً عن أولويات اليمن أو مصر. وقد أدى ذلك إلى مفاهيم متباينة للغاية للمصلحة الوطنية ومصلحة النظام. واصطدمت أي محاولة لترجمة هذه المفاهيم إلى أنشطة متكاملة بتعدد الجهات الفاعلة، والاعتماد على القاسم المشترك الأدنى (أو "الإجماع")، والافتراضات الضمنية لدى العديد من الجهات بأنها القائد الطبيعي.

أمكن التغلب على هذه العقبات في بعض الأحيان، لكن الاستثناءات غالباً ما تثبت قاعدة التشتت. فقد شهدت تداعيات الحرب على الكويت إعلان دمشق، الذى تضمن تنسيقاً أمنياً سرعان ما تحوّل إلى علاقات أمنية منفصلة مع قوة خارجية (الولايات المتحدة). وأنهى اتفاق الطائف عام 1989 الحرب الأهلية اللبنانية، لكن محاولات إعادة بناء النظام السياسي اللبناني اصطدمت سريعاً بالانقسامات الداخلية والتنافسات الإقليمية. وأطلقت مبادرة السلام العربية عام 2002 ما بدا جهداً  واعداً للغاية لحل النزاعات الإقليمية وتطبيع العلاقات، لكن الزخم الدبلوماسي الذى كان يدعمها تبخّر فى مواجهة الرفض الإسرائيلي وعدم التزام الولايات المتحدة المتوقع.

وتُظهر هذه الاستثناءات أنماطاً واضحة: فقد كانت تميل إلى أن تكون جهوداً ارتجالية (أحياناً عبر هياكل قائمة كجامعة الدول العربية، لكنها تركز على قضية واحدة)؛ وغالباً ما كانت تعتمد (أو تفشل) لا على الدبلوماسية العربية الفعّالة، بل على استمالة دعم جهة خارجية قوية؛ وكان هدفها فى كثير من الأحيان داخلياً فى المنطقة (مصر عام 1979؛ العراق عام 1990)؛ وفشلت فى إشراك جهات إقليمية غير عربية (مثل إيران وتركيا وإسرائيل). كل هذه الخصائص كانت مفهومة في ظل الظروف الفردية التي أدت إلى ظهور هذه المبادرات، لكنها أرست سوابق غير مستقرة.

فى أعقاب أحداث أكتوبر 2023 مباشرة، لم يكن من المستغرب أن تعود دولتان عربيتان، مصر وقطر، إلى أدوارهما المعتادة في إدارة الأزمات: الوساطة غير الرسمية، وتسهيل وصول المساعدات، والضغط على الأطراف المسلحة للحد من التصعيد. ونظراً لحدود مصر مع غزة، وعلاقاتها المؤسسية مع بعض عناصر الكيان الفلسطيني، ونفوذها فى واشنطن، سرعان ما أصبحت القاهرة الوسيط الإقليمي الرئيسي لمحادثات وقف إطلاق النار والترتيبات الإنسانية. وظلت قطر، بعلاقاتها مع حماس ودورها الوساطي المستمر قبل عام 2023، عاملاً حاسماً فى تيسير المفاوضات بشأن الرهائن، والهدنات المؤقتة للهجمات الإسرائيلية، وترتيبات وقف إطلاق النار. وقد قادت القاهرة والدوحة، بالتنسيق غالباً مع الوساطة الأميركية والدعم الدبلوماسي الأوروبي، العمل اليومي الذي أثمر هدنات مؤقتة، وتبادلاً للأسرى، وزيادة تدريجية في ممرات المساعدات.

في بعض الأحيان، حقق المسار المصري- القطرى المشترك نتائج ملموسة، وفى أحيان أخرى تعثر، ما يعكس محدودية النفوذ الإقليمي على الأطراف، واختلال موازين القوى، وضعف الإرادة السياسية لدى الجانب الإسرائيلي. وفي أواخر عام 2024، أشارت قطر إلى أنها ستوقف جهود الوساطة مؤقتاً ريثما يبدي الطرفان جدية متجددة، في تذكير بأن الوساطة العربية مؤثرة، لكنها ليست مطلقة التأثير.

لكن في هذه المناسبة، خلقت التحديات توافقاً مبدئياً بين الفاعلين العرب الرئيسيين الذين بدأوا في عام 2024 بالتنسيق على نطاق أوسع وبشكل استراتيجي من خلال دبلوماسية غير رسمية، ولكن مكثفة. بدأوا بالكلام، مقدمين مقترحاتهم الخاصة بتسلسل وقف إطلاق النار، وإدارة إعادة الإعمار، والترتيبات الأمنية، وسبل التفاوض السياسي. لكن لم يكن على العواصم العربية الاكتفاء بالإدلاء بتصريحات، بل كان عليها أيضاً تطوير موقف دبلوماسي أكثر حزماً وتنسيقاً واستدامة واستراتيجية مما كان عليه فى الأزمات السابقة، وقد فعلوا ذلك تدريجياً.

منذ أواخر عام 2023، مزجت الدبلوماسية العربية بين الممارسات القديمة (مثل القمم، والبيانات الجماعية، والدبلوماسية المكوكية) والتحركات العملية الجديدة (مثل التعهدات الإقليمية بإعادة الإعمار، وفرق العمل الخاصة بغزة، ومقترحات حفظ السلام والأمن وإعادة الإعمار). اتسمت هذه الدبلوماسية بالتفاوت والخلاف، بل والتناقض أحياناً، إلا أنها تشير إلى تحول واضح من سياسات التطبيع القائمة على المصالح المتبادلة إلى موقف عربي حازم وعلني تجاه غزة والقضية الفلسطينية. شهد هذا العام تجليين ملموسين لهذا التحول: الدور الوساطي الذي لعبته العواصم العربية في الفترة التي سبقت وقف إطلاق النار فى يناير 2025، وظهور خطة إعادة إعمار بارزة برعاية عربية في مارس 2025.

كانت الخطوة الأولى إدارة الحرب في غزة واحتواءها؛ والثانية صياغة موقف عربي بشأن قضايا تقرير المصير الفلسطيني طويلة الأمد؛ والثالثة إحياء أو ابتكار آليات للأمن الإقليمي الجماعي قادرة على الحد من تداعيات الحرب، وتحقيق الاستقرار في الدول الهشة، وتقليل احتمالية اندلاع حروب متعددة ومتزامنة.

(الشروق المصرية)
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن