الأمن القومي العربي

الاتِّزانُ الاستراتيجيُّ" المِصْرِي... وتَفْكيكُ وَهْمِ الانْكِفاء!

لَم تَكُنْ دَعَواتُ الانْكِفاءِ على الذّاتِ التي راجَتْ في مِصْرَ خِلالَ سَنَواتٍ طَويلَةٍ سِوى تَعْبيرٍ عن لَحْظَةِ إِرْهاقٍ تاريخِيّ، لا عن مُراجَعَةٍ اسْتْراتيجِيَّةٍ حَقيقِيَّة. فَقَد بَدا، في ذُروةِ اضْطِرابِ الإِقْليمِ العَرَبيِّ بَعْدَ 2011، وقَبْلَ ذَلِكَ بِبِضْعَةِ عُقود، وكَأَنَّ الخَلاصَ يَكْمُنُ في الانْسِحابِ مِنَ المَجالِ العَرَبِيّ، وتَخْفيضِ سَقْفِ التَّوَقُّعات، والتَّرْكيزِ على الدّاخِلِ بِاعْتِبارِهِ أَوْلَوِيَّةً مُطْلَقَة. غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعَوات، على ما حَمَلَتْهُ مِن دَوافِعَ مَفْهومَة، اصْطَدَمَتْ بِحَقائِقَ صَلْبَة: أَنَّ الدُّوَلَ لا تَخْتارُ جُغْرافِيَّتَها، ولا تَنْفَصِلُ عن مُحيطِها، وأَنَّ الفَراغَ الذي تَتْرُكُهُ القُوى الكُبْرى في أَقاليمِها لا يَبقى فَراغًا طَويلًا.

الاتِّزانُ الاستراتيجيُّ

جاءَ كِتابُ "الاتِّزانِ الاسْتْراتيجيِّ" الصَّادِرُ عن وِزارَةِ الخارِجِيَّةِ المِصْرِيَّةِ لِيُقَدِّم، بِهُدوءٍ ومِن دونِ خِطابِيَّة، تَفْكيكًا عَمَلِيًّا لِهذا الوَهْم. فَالكِتابُ لا يُدافِعُ عن دَوْرٍ عَرَبيٍّ لِمِصْرَ بِوَصْفِهِ شِعارًا إِيدْيولوجِيًا، بَلْ يُعالِجُهُ بِاعْتِبارِهِ ضَرورَةً اسْتْراتيجِيَّة، وجُزْءًا مِن مُعادَلَةِ الأَمْنِ القَوْمِيّ، وشَرْطًا لِلحِفاظِ على الاسْتِقلالِ الوَطَنيِّ في نِظامٍ دَوْليٍّ يَتَراجَعُ فيهِ مَنْطِقُ القِيَمِ لِصالِحِ مَنْطِقِ القُوَّةِ والمَصالِحِ الصَّلبَة.

يتداخل الأمن القومي المصري مع الأمن العربي تداخلًا عضويًا

بِأَبْسَطِ قِراءَةٍ واقِعِيَّةٍ لِمَسارِ دَوْلَةٍ شَكَّلَت، بِحُكْمِ مَوْقِعِها وتَكْوينِها، قَلْبَ التَّوازُنِ في المِنْطَقَة، رُبَّما تَجِدُ أَنَّ مِصْرَ لَم تَعْرِف، في أَيِّ مَرْحَلَةٍ مِن تاريخِها الحَديث، وَضْعًا مُسْتَقِرًّا خارِجَ مُحيطِها العَرَبِيّ. فَكُلُّ لَحْظَةِ صُعودٍ مِصْرِيٍّ ارْتَبَطَتْ بِدَوْرٍ إِقْليميٍّ فاعِل، وكُلُّ لَحْظَةِ انْكِفاءٍ فُرِِضَتْ عَلَيْها - أَوِ اخْتارَتْها - انتَهَتْ بِتآكُلِ نُفوذِها وتَراجُعِ قُدْرَتِها على التَّأْثيرِ حتّى في شُؤونِها الدّاخِلِيَّة.

التّاريخُ يَقولُ بِوُضوحٍ إِنَّ مِصْرَ لَم تَكُنْ يَوْمًا دَوْلَةً "مُحايِدَةً" تُجاهَ مُحيطِها، كما لَمْ تَكُنْ قادِرَةً على أَنْ تَكونَ جَزيرَةً مُنْعَزِلَة. مِن قَناةِ السُّوَيسِ إلى البَحْرِ الأَحْمَر، ومِن فِلَسْطينَ إلى ليبْيا والسّودان، ومِن الأَناضولِ شَمالًا إلى البُحَيْراتِ الاسْتِوائِيَّةِ جَنوبا، ومِنَ الخَليجِ شَرْقًا إلى المُحيطِ غَرْبًا، يَتَداخَلُ الأَمْنُ القَوْمِيُّ المِصْرِيُّ مَعَ الأَمْنِ العَرَبيِّ تَداخُلًا عُضْوِيًا، وأَيُّ تَصَوُّرٍ يَفْصِلُ بَيْنَهُما إِنَّما يَنْطَلِقُ مِن خَيالٍ سِياسيٍّ لا مِن وَقائِعِ الجُغْرافْيا.

الدولة التي تنسحب من محيطها لا تحمي نفسها بل تترك أمنها ليُدار من الخارج

تُظْهِرُ القِراءَةُ المُتَأنِّيَةُ لِكِتابِ "الاتِّزانِ الاسْتْراتيجيِّ" أَنَّ الرُّؤْيَةَ المِصْرِيَّةَ لا تَتَعامَلُ مَعَ الدّائِرَةِ العَرَبِيَّةِ بِوَصْفِها عِبْئا، بَلْ بِاعْتِبارِها مَجالًا حَيَوِيًّا لا يُمْكِنُ تَجاهُلُهُ أَوِ القَفْزُ فَوْقَه. فالأَزَمَاتُ العَرَبِيَّةُ لَم تَعُدْ "أَزَمَاتٍ بَعيدَة"، بَلْ تَحَوَّلَتْ إلى تَهديداتٍ مُباشِرَة: الإِرْهابُ العابِرُ لِلحُدود، الهِجْرَةُ غَيْرُ النِّظامِيَّة، انْهِيارُ الدُّوَلِ الوَطَنِيَّة، تَمَدُّدُ الفَواعِلِ المُسَلَّحَة، وتَزايُدُ التَّدَخُّلاتِ الإِقْليمِيَّةِ والدَّوْلِيَّة.

في هذا السِّياق، يُصْبِحُ الانْكِفاءُ على الذّاتِ سِياسَةً قَصيرَةَ النَّظَر. فالدَّوْلَةُ التي تَنسَحِبُ مِن مُحيطِها لا تَحْمي نَفْسَها، بَل تَتْرُكُ أَمْنَها لِيُدارَ مِنَ الخارِج. والفَراغُ الاسْتْراتيجِيّ، كما أَثْبَتَتْ تَجارِبُ المِنْطَقَة، لا تَمْلَؤُهُ القُوى العَرَبِيَّة، بَل قُوًى دَوْلِيَّةٌ أَو إِقْليمِيَّةٌ تَحْمِلُ أَجَنْداتِها الخاصَّة، وغالِبًا ما تَتَصادَمُ مَعَ المَصالِحِ الوَطَنِيَّةِ لِلدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ وفي القَلْبِ مِنْها مِصْر.

لا يُمْكِنُ فَهُمُ انْتِشارِ خِطابِ الانْسِحابِ أَوِ الاسْتِقالَةِ مِنَ المُحيطِ العَرَبيِّ مِن دونِ الإِقْرارِ بِأَسْبابِه. فَفَشَلُ النِّظامِ العَرَبيِّ التَّقْليدِيّ، وتآكُلُ مُؤسَّساتِه، وتَحَوُّلُ الجامِعَةِ العَرَبِيَّةِ إلى إِطارٍ رَمْزِيٍّ مَحْدودِ الفاعِلِِيَّة، كُلُّها عَوامِلُ غَذَّتْ شُعورًا عامًّا بِأَنَّ "الدَّوْرَ العَرَبِيَّ" عِبْءٌ بلا مُقابِل. أَضِفْ إلى ذلك كُلْفَةَ الصِّراعاتِ المَفْتوحَة، وتَوْظيفَ بَعْضِ القُوى الإِقْليمِيَّةِ لِلشِّعاراتِ العَرَبِيَّةِ غِطاءً لِمَشاريعِ الهَيْمَنَة، فاخْتَلَطَ الدَّوْرُ بِالوِصايَة، والالْتِزامُ بِالتَّوَرُّط.

غَيْرَ أَنَّ الخَطَأَ لَم يَكُنْ في فِكْرَةِ الدَّوْرِ ذاتِها، بَلْ في نَموذَجِ إِدارَتِه. فالدَّوْرُ العَرَبِيُّ لَم يَفْشَلْ لأَنَّهُ عَرَبِيّ، بَلْ لأَنَّهُ افْتَقَدَ الشَّراكَة، وغَلَبَتْ عَلَيهِ خِطاباتُ الفَرْدِيَّةِ والهَيْمَنَةِ والوِصايَةِ والاحْتِكارِ ووَصْمِ الآخَرين، وغابَتْ عَنهُ آلِيّاتُ إِدارَةِ الخِلاف، فَصارَ ساحَةً لِلاسْتِقطابِ لا لِلتَّكامُل.

هُنا تَبْرُزُ أَهَمِّيَّةُ مَفْهومِ "الاتِّزانِ" كما يَطْرَحُهُ الكِتاب. فَالاتِّزانُ لا يَعْني الحِيادَ السَّلْبِيّ، ولا الانسِحابَ مِنَ المَجالِ الحَيِوِيّ، بَلْ يَعْني الحُضورَ الرَّشيدَ القائِمَ على المَصْلَحَةِ الوَطَنِيَّة، مِن دونِ انْدِفاعٍ إِيدْيولوجيٍّ أَوِ ارْتِهانٍ لِمَحاوِر. وهوَ مَفْهومٌ يَرْفُضُ في آنٍ واحِدٍ نَموذَجَ الهَيْمَنَةِ ونَموذَجَ الانْكِفاء، ويَبْحَثُ عن صيغَةٍ ثالِثَةٍ أَكْثَرَ نُضْجًا.

النظام العربي الذي تفرضه تحديات اللحظة الراهنة هو نظام يقوم على التكامل لا الصراع وإهدار الطاقة والثروة

وَفْقَ هذا التَّصَوُّر، فإِنَّ اسْتِعادَةَ مِصْرَ لِحَيَوِيَّةِ دَوْرِها العَرَبيِّ لا تَعْني عَوْدَةً إلى زَعامَةٍ تَقْليدِيَّة، ولا إلى خِطابِ "الأَخِ الأَكْبَر"، بَلْ إلى دَوْرِ مَرْكَزِ التَّوازُن: الدَّوْلَةِ القادِرَةِ على جَمْعِ المُتَناقِضات، وتَوسيعِ مِساحاتِ الاتِّفاق، وتَقْليلِ كُلْفَةِ الخِلاف، ومَنْعِ انْزِلاقِ الإِقْليمِ إلى صِراعاتٍ صِفْرِيَّة.

مِن أَخْطَرِ الأَوْهامِ التي تُواجِهُ النِّقاشَ حَوْلَ مُسْتَقبَلِ النِّظامِ العَرَبيِّ الاعْتِقادُ أَنَّ البَديلَ عن الهَيْمَنَةِ هُوَ الغِياب. بَيْنَما الحَقيقَةُ أَنَّ النِّظامَ العَرَبِيَّ الجَديد، إِنْ كُتِبَ لَهُ أَنْ يَقوم، لا يُمْكِنُ أَنْ يُبْنى مِن دونِ مِصْر، كما لا يُمْكِنُ أَنْ يُبْنى على هَيْمَنَةِ مِصْرَ أَو غَيْرِها.

النِّظامُ العَرَبِيُّ الذي تَفْرِضُهُ تَحَدِّياتُ اللَّحْظَةِ الرّاهِنَةِ هُوَ نِظام: يَقومُ على الشَّراكَةِ لا الوِصايَة، وعلى تَوْحيدِ الأَهْدافِ الكُبْرى مِن دونِ إِذابَةِ الخُصوصِيّات، وعلى إِدارَةِ الخِلافِ لا إِنْكارِهِ أَو تَفْجِيرِه، وعلى التَّكامُلِ لا الصِّراعِ وإِهْدارِ الطّاقَةِ والثَّرْوَة.

في هذا النِّظام، تَلْعَبُ مِصْرُ دَوْرَ الضّامِنِ لِلتَّوازُن، لا القائِدِ الأَوْحَد؛ ودَوْرَ الجِسْرِ بَيْنَ المَراكِزِ العَرَبِيَّةِ المُخْتَلِفَة، لا طَرَفًا في اسْتِقطابِها؛ ودَوْرَ الحارِسِ لِلمُشْتَرَكِ العَرَبِيّ، لا المُحْتَكِرِ لِتَمْثيلِه.

استقالة مصر من دورها العربي هي ضد التاريخ والجغرافيا وضدّ المصلحة المصرية ذاتها

القَضِيَّةُ المَرْكَزِيَّةُ التي يَلْفِتُ إِلَيْها كِتابُ "الاتِّزانِ الاسْتْراتيجيّ" - وإِنْ بِشَكْلٍ غَيْرِ مُباشِر - هِيَ أَنَّ أَخْطَرَ ما يُواجِهُ المِنْطَقةَ العَرَبِيَّةَ اليَوْمَ لَيْسَ الصِّراعَ في حَدِّ ذاتِه، بَلْ إِدارَةَ الصِّراعِ مِن خارِجِ الإِقْليم. فَكُلُّ أَزْمَةٍ تُتْرَكُ بلا مُعالَجَةٍ عَرَبِيَّةٍ تَتَحوَّلُ إلى مَدْخَلٍ لِتَدَخُّلٍ دَوْليٍّ أَو إِقْليمِيّ، وكُلُّ فَراغٍ في التَّوازُنِ يُمْلَأُ بِقُوَّةٍ لا تَرى في المِنْطَقَةِ سِوى ساحَةِ نُفوذ.

لا تَعودُ مِصْرُ إلى دَوْرِها العَرَبيِّ لأَنَّها غادَرَتْهُ يَوْمًا، بَلْ لأَنَّها تُعيدُ تَعْريفَهُ بِما يَنْسَجِمُ مَعَ تَحَوُّلاتِ العَصْر. فالدَّوْرُ العَرَبِيّ، كما يُقَدِّمُهُ "الاتِّزانُ الاسْتْراتيجِيّ"، لَيْسَ شِعارًا عاطِفِيًا، بَلْ هو اسْتِثْمارٌ في الاسْتِقرار، ووَسيلَةٌ لِحِمايَةِ الأَمْنِ القَوْمِيّ، وضَمانَةٌ لِعَدَمِ تَرْكِ مَصيرِ المِنْطَقةِ في أَيْدي الآخَرين.

إِنَّ اسْتِقالَةَ مِصْرَ مِن دَوْرِها العَرَبيِّ لَيْسَتْ مُسْتَحيلَةً فَحَسْب، بَلْ هِيَ أَيْضًا ضِدَّ التّاريخ، وضِدَّ الجُغْرافْيا، وضِدَّ المَصْلَحَةِ المِصْرِيَّةِ ذاتِها. وبَيْنَ هَيْمَنَةٍ مَرْفوضَةٍ وانْكِفاءٍ خَطِر، يَفْتَحُ الاتِّزانُ الاسْتْراتيجِيُّ طَريقًا ثالِثًا: حُضورًا مَسْؤُولًا، وشَراكَةً ناضِجَة، ونِظامًا عَرَبِيًّا يُدارُ بِإِرادَةِ أَبْنائِه، لا بِوِصايَةٍ مِن خارِجِه.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن