ثقافة

التعليم في تونس.. تكاليف باهظة ومشاكل بنيوية (2/2)

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

رغم الحديث عن جملة من المطالب، إلا أنّ البعد الأساسي لأزمة نقابات التعليم ووزارة التربية في تونس ماديّ أساسًا، فإنفاق الدولة على المؤسسات التربوية تراجع وتمّ التخفيض في حجم الميزانية الموجهة لقطاع التعليم، حتى أنها أصبحت من أقلّ الميزانيات منذ أكثر من عقد ودون مستوى الاحتياجات الحقيقية لهذا القطاع. وفي الأثناء ترى مختلف مكوّنات الأسرة التربوية أنّ أجورها متدنية مقارنةً بقطاعات أخرى مسؤولياتها أقلّ، وأنّ على الدولة تحسين أجورهم. ولهذا لا يتردّدون في خوض معارك مع الدولة مستخدمين التلاميذ كورقة مقايضة معها.

التعليم في تونس.. تكاليف باهظة ومشاكل بنيوية (2/2)

تثير هذه الحلقة اللامتناهية من الصراع استياء العائلات التونسية التي ترى أبناءها يدفعون فاتورة عجز الوزارة عن تحقيق المطالب المادية للمربّين، وإصرار المدرّسين على الاحتجاج على مدار السنة دون الاكتراث لتبعات ذلك على المردود المعرفي للتلاميذ، لا سيما وأنّ ذلك يتزامن مع تراجع المستوى المعرفي والبيداغوجي لجزء من الإطار التدريسي خاصة في المرحلة الابتدائية. هذا إلى جانب الوضع الكارثي لعدد كبير من المدارس والمعاهد، لا سيما في المدن الداخلية حيث سقط أسقف بعضها على رؤوس التلاميذ في بعض المناطق وسط لا مبالاة من سلطة الإشراف، وهو وضع يثير بدوره مخاوف الأهالي ويحرم الكثير من التلاميذ من ظروف تعلّم ملائمة.

وحنق الأهالي وخيبتهم لها أسباب أخرى أيضًا، فالمربون الذين ينظمّون تحركات احتجاجية يفرضون هم أنفسهم الدروس الخصوصية على جميع التلاميذ، حتى في المراحل الأولى من التعليم الابتدائي بأسعار مرتفعة، بل إنّ البعض يقوم بابتزاز التلاميذ لدفعهم إلى تلقي هذه الدروس.

تقول ابتسام (تلميذة بالسنة الثانية من التعليم الثانوي من محافظة المنستير) لـ"عروبة 22": "رغم أنني متفوّقة دائمًا ولا أحتاج الدروس الخصوصية، لكنني أُجبرت عليها بسبب ابتزاز أساتذتي. إذ تعمّدوا تقديم الدروس بمضامين مغايرة لما يقدّمونه خلال ساعات الدراسة اليومية، لأجد نفسي خلال الامتحانات أمام محاور غريبة عني. وعندما كنت أحتجّ على ذلك كان ردّهم التحقي بالدروس الخصوصية. حاولتُ بدايةً أن لا أنساق لهذه الدروس لكن تراجعت معدّلاتي فاضطررت مكرهةً لتلقيها، رغم أنّ عائلتي لم تكن في وضع مادي يحتمل مثل هذه المصاريف".

وإلى جانب جشع بعض المربّين، يعاني التلاميذ خاصة في الأرياف من غياب وسائل النقل ما يدفعهم للمشي كيلومترات طويلة يوميًا في طرقات غير مهيّأة، بعضها جبلية وغير آمنة، هذا فضلًا عن سوء الخدمات في المدارس كالحمّامات وغيرها.

ويُذكر في هذا المجال أنّ وزير التربية السابق فتحي السلاوتي قد صرح في 2020 أنّ هناك 1415 مدرسة ابتدائية في تونس غير مرتبطة بشبكة الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، بينها 461 مدرسة تشهد إشكاليات واضطرابات متكرّرة في التزوّد بالماء. وهي أرقام من المرجح أنها قد زادت لا سيما في ظلّ تعاقب عدد كبير من الحكومات التي لم تضع إصلاح التعليم برمّته في خانة أولوياتها.

أدّت هذه العوامل مجتمعةً إلى ضرب المدرسة العمومية التي لم تعد تجذب التلاميذ بل تنفرّهم من التعليم، ولعلّ هذا ما يفسّر ارتفاع معدلات التسرّب المدرسي في تونس منذ الثورة بأعداد قياسية. إذ أوضحت دراسة أنجزها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنّ نحو مليون تلميذ انقطعوا عن الدراسة خلال العقد الأخير، بواقع 100 ألف تلميذ سنويًا. وتواصلت المعدلات ذاتها حتى في السنتين الأخيرتين، علمًا أنّ هذا الرقم يُعد كبيرًا جدًا بالنسبة لبلد لا يتجاوز عدد سكانه 12 مليون نسمة، ولكن رغم خطورته إلا أنّ سلطة الإشراف من جهة والمربّين من جهة أخرى لا يولون أهمية لما يجري.

ويكشف عالم الاجتماع بسام عبيدة الذي أنجز أطروحة حول التسرّب المدرسي، أنّ عددًا كبيرًا من المتسرّبين مما التقاهم اشتكوا من سوء المعاملة التي تعرّضوا لها من قبل المربّين، وأن غالبية المتسرّبين (ذكورًا وإناثًا) تعرضوا للعنف اللفظي أو البدني داخل المدرسة ولم يتلقوا دعمًا من الإدارة.

ويضيف عبيدة: "هناك جزء من الإطار التربوي لا يحسن التعاطي مع التلاميذ ولا يحاول فهمهم، إذ أخبرني العديد من التلاميذ المنقطعين عن الدراسة أنّ المدرّسين كانوا يطردونهم من القسم لأتفه الأسباب. فبسبب إهمال المربّين أو ضعف تكوينهم لا يعيرون أهمية للمشاكل النفسية التي من المرجح أن يكون التلميذ يواجهها، ويمرّون مباشرة لتسليط العقوبات التي عادةً ما تحبط التلميذ وتنفره من المدرّس والمدرسة".

المدارس الخاصة تستفيد

وفي الوقت الذي تتخبّط فيه المدرسة العمومية في هذه المشاكل، طرح التعليم الخاص نفسه كطوق نجاة معرفي، لكن حصرًا لمن استطاع إليه سبيلا. وخلال سنوات قليلة تضاعفت أعداد المدارس والمعاهد والجامعات الخاصة مستفيدةً من حالة الغضب والاستياء مما آلت إليه المدرسة العمومية. وتدريجيًا لم يعد التعليم الخاص حكرًا على الأثرياء، بل بدأ يجذب الطبقات المتوسطة وينافس التعليم العمومي.

إذ بلغ عدد المدارس الابتدائية والإعدادية والمعاهد الثانوية الخاصة المتحصّلة على ترخيص، 1242 مؤسسة، منها 736 مؤسسة للتعليم الابتدائي. علمًا أنّ عدد المدارس الابتدائية الخاصة قد تطوّر من 324 في الموسم الدراسي 2015/2016 إلى 736 مدرسة في الموسم 2022/2023، بما يمثّل حوالى 13% من إجمالي المدارس الابتدائية في تونس.

ويتوافد إلى هذه المدارس الابتدائية الخاصة أكثر من 100 ألف تلميذ من إجمالي أكثر من 1.3 مليون تلميذ مسجلين في المرحلة والابتدائية، وهو ما يمثّل حوالى 8% من إجمالي التلاميذ المسجّلين في المرحلة الابتدائية.

وتقول سلوى (موظفة من تونس العاصمة وأم لطفلتين في المرحلة الابتدائية)  لـ"عروبة 22": "بعملية حسابية لتكاليف الدروس الخصوصية الإجبارية والمصاريف اليومية لطفلتينا، وجدنا أنّ ما ندفعه في المدرسة العمومية يعادل ما يُدفع لمدرسة خاصة زائد مستوى تعليم متدني وإضرابات متتالية وعدم التزام من المربّين. حينها قرّرنا نقلهما إلى مدرسة خاصة تضمن لنا على الأقلّ حماية أبنائنا من الولوج إلى الشارع بكلّ مخاطره، وتقدّم تعليمًا جيدًا ومتابعة مستمرّة معنا كأولياء لكل شؤونهما وهو ما لا يحدث أبدًا في المدرسة العمومية، ولهذا لست نادمة على قرار المدرسة الخاصة حتى وإن زادت التكاليف".   

وتُقرّ سلطة الإشراف بدورها بتدني مستوى التعليم في المدرسة العمومية حيث أكد وزير التربية السابق فتحي السلاوتي، أنّ 75% من تلاميذ السادسة ابتدائي و83% من تلاميذ التاسعة أساسي هم في حالة شبه أمّية. وهو عامل بدأ يتسبّب في نفور التونسيين من التعليم الحكومي والهروب إلى الخاص، حتى وإن أثقل كاهلهم بالمصاريف. وبهذا أصبح التعليم الجيّد في تونس متاحًا للطبقات الميسورة وبعض العائلات من الطبقة الوسطى، في حين لا خيار أمام العائلات الفقيرة إلا مسايرة التعليم العمومي بكل مشاكله.


لقراءة الجزء الأولالتعليم في تونس.. تكاليف باهظة ومشاكل بنيوية (2/1)

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن