في فبراير (2014) دخل إلى سؤاله المقلق: "لا يمكن أن نتكلّم عن مستقبل وليس أمامنا طريق، في هذه اللحظة نحن في حالة تيه بالصحراء".
شبّه مصر بسيارة كبيرة تتجه إلى المستقبل، دخلت الصحراء وأوغلت فيها حتى تاهت. "عند اغتيال الرئيس السادات بدأت السيارة الكبيرة في التلف وفقدت أحد إطاراتها، جاء بعده الرئيس مبارك وتصوّر بخبرته كطيّار أنّ السيارة الكبيرة طائرة، فبدأ إصلاحها على أنها كذلك، لكنه لم ينجح لأنه كان يفعل شيئًا ضد طبيعتها، وظلّت السيارة معطّلة، والطريق إلى المستقبل معطّل، حتى جاء المجلس العسكري بعد ٢٥ يناير ٢٠١١ ووقف أمام السيارة ولم يعرف كيفية إصلاحها، ثم جاء الرئيس مرسي فرأى السيارة تعاني من عدة أعطال فاعتبرها "توك توك" وبدأ يقودها على أنها كذلك، وصعد معه في السيارة الأهل والعشيرة وأقفاص الدجاج، لكنها لم تمضِ بهم أيضًا على الطريق، إلى أن وصلنا إلى المرحلة الراهنة التي يقف فيها كل أصحاب السيارة، سيارة الوطن، أمام أعطالها وهي تسير بطريقة خاطئة".
يكون للحرية معنى حين تكون قادرًا على مسؤوليّتها
"نحتاج إلى أن تكون لدينا مركبة إلى المستقبل سمّها الدولة، سمّها المجتمع، أو ما تريده، المشكلة أنه ليس لديك هذه المركبة".
في ذلك الحوار المطوّل، الذي أدرتُه، على قناة "التحرير"، بين الأستاذ محمد حسنين هيكل ونخبة من كبار الصحفيين والأدباء والشخصيات العامة، مضى قدمًا في توصيف الأزمة الماثلة قبل الانتخابات الرئاسية عام (2014).
"لأوّل مرّة في التاريخ المصري الحديث على الأقل أنت أمام مشكلة أن توجد أو لا توجد".
"انظر إلى خريطة الإقليم.. حيثما نظرت ستجد أنّ كلّ ما كان مجالًا مفتوحًا للحركة أصبحت عليه الآن أخطار داهمة".
"قل لي كيف أدرت ملف النيل قبل أن تسألني عن الحرية، يكون للحرية معنى حين تكون قادرًا على مسؤوليّتها".
"تركنا ملف المياه لخبراء وزارة الري ووزراء الري، وهذا موضوع كان يجب أن يُعالج على مستوى السياسة في إطار أفريقي حقيقي وأنت ليس لديك هذه الأطر، أنت أمام مشاكل وجودية عليك أن تحلّها… لو بدأ سد إثيوبيا يحجز المياه وسيستغرق ٧ سنوات لكي يُمتلأ فأنت لديك مشكلة حقيقية".
"القضية رقم واحد مياه النيل، فهي أخطر مما نتصوّر، ولا بدّ من إسنادها إلى قيصر سياسي يتولى معالجتها".
علينا أن نعرف الحقيقة ونواجه تحدياتها ونجد حلولًا للأزمات الوجودية
أزمة المياه بلغت ذروتها بالملء الرابع للسد الأثيوبي، وأزمة الغذاء التي اعتبرها وجودية تفاقمت إلى حدود منذرة بانفجارات محتملة.
"أنا لست واقفًا على طريق المستقبل، ضعني أولًا على هذا الطريق. وإذا لم تجب عن المخاطر الوجودية، التي تهدّد هذا البلد فما تطرحه يظلّ مجرد كلام".
"هل يُعقل أن تدعوني للسفر وليس معنا تذاكر ولا حجز ولا تأشيرة دخول".
"لو عدنا إلى مَثَل السيارة الخربة، فالكاوتش مفرقع وليس لدينا بنزين ولا زيت، ثم تدعوني للقيادة، كيف وإلى أين سنذهب؟".
"لا يكفي أن تطالب بالحرية والعيش والكرامة، شعارات الثورة وهي صحيحة، دون أن توصف الأوضاع التي أنت فيها كما ينبغي، وكلّها لا توصلك للمستقبل… عليك أن تعرف أين أنت وكيف تتحرّك ثم متى تبدأ".
"أوّل ما يتوجّب علينا أن نعرف الحقيقة ونواجه تحدياتها ونجد حلولًا للأزمات الوجودية التي تعترضنا".
لم يحدث شيء من ذلك.
"لا يمكن لأي بلد أن يعيش على المساعدات".
"مصر لم تعد كما عرفتها، ملامحها تغيّرت وسؤال الثقافة حيوي في اللحظة الراهنة".
"التجريف الذي حصل في مصر، والقحط الذي نال من الأفكار والبشر والطموحات، أوصلنا بعد سنين طويلة من النهضة، أو اليقظة، لسؤال الوجود، نكون أو لا نكون".
لم يجد سؤاله أية إجابة وانكفأ المثقفون بعد الدور الكبير الذي لعبوه في التمهيد لـ(٣٠) يونيو بأثر الخيارات التي اتّبعت.
هذا البلد يجتاز مرحلة في منتهى الخطورة، وهو لأوّل مرّة أمام معضلة أن يكون أو لا يكون
في عمق رؤيته أنّ الأوضاع، التي تبدت في مطلع (٢٠١٤)، لا يمكن أن تستمر، معربًا عن خشيته أن نجد أنفسنا على "طريق الندامة" حيث يجب ألا يكون واردًا، لأننا أمام تحدي أن نكون أو لا نكون.
أخشى الآن أن نكون قد أوغلنا في ذلك الطريق.
في الأول من أكتوبر بالعام نفسه (٢٠١٤) نظر إلى سؤال المستقبل من جديد، وهو يستشعر بوقع السنين أنّ وقت الرحيل اقترب.
كان "الأهرام" قد دعاه إلى احتفال خاص بعيد ميلاده الحادي والتسعين، وكنت مدعوًا إلى الاحتفال ضمن كتّاب وأدباء آخرين من داخل المؤسسة العريقة وخارجها على رأسهم الأديب الكبير الراحل بهاء طاهر.
"لا يمكن الاطمئنان على أي مستقبل ما لم تكن هناك رؤية تحكم الخيارات والسياسات وتتسق مع حقائق عصرها واحتياجات مجتمعها".
"أريد أن أقول إنّ هذا البلد يجتاز مرحلة في منتهى الخطورة، وهو لأوّل مرّة أمام معضلة أن يكون أو لا يكون".
"ثوابت كثيرة الآن موضوع تساؤل".
"العالم يتغيّر رأسًا على عقب، وشكل ما هو قادم يتغيّر، والإقليم يتغيّر.. ونحن لا نبدو قادرين على الملاحقة".
في عيد ميلاده الأخير (٢٠١٥) عاد مجددًا ليعبّر عن قلقه البالغ على المستقبل المصري.
"ماذا نفعل؟"
"نحن أمام ناس تائهة.. العصر يطرح حقائق جديدة ومتغيّرات جديدة وخياراتنا كما هي لم تتغيّر ولا تصلح لمسايرة الحقائق والمتغيّرات الجديدة".
نحتاج إلى عقول ترصد التطوّرات في الداخل والخارج
"الأزمات تستدعي أفكارًا جديدة، والأفكار الجديدة تخلق تيارًا عامًا يساعد على تحريك وعي الناس".
"البلد للأسف جرى عليه وابور زلط فبططه لكنه لم يفقد الأمل".
"لا تنسوا أنّ هناك مفكّرين ومثقّفين يستطيعون مناقشة القضايا الكبرى، وهناك قوى منحازة لقضية العدالة الاجتماعية لكننا نحتاج إلى تنظيم العقل المصري".
"نحتاج إلى عقول ترصد التطوّرات التي جرت في الداخل والخارج، حتى نعرف من أين نبدأ".
"لا توجد فكرة مركزية مطروحة، ولا توجد وحدة هدف واضحة".
"الدستور لم يطبّق ولم تنفّذ مواده بعد.. والعجيب أنّ البعض يطالب بتعديله".
... هكذا تصاعد منسوب قلقه إلى حد أنه حذر في حواره الأخير على شاشة "cbc" من "الخروج من التاريخ".
(خاص "عروبة 22")