لفترة طويلة كانت الأنظمة العربية تستمد مشروعيتها من مرجعيات مختلفة. فقد استمرّ بعضها باكتساب مشروعيته من المرجعية الدينية مثل المملكة المغربية والمملكة العربية السعودية، والنظام الامامي في اليمن قبل ثورة 1952، وأغلب الأنظمة الأخرى تستمدّ مشروعيتها من المرجعية الثورية الانقلابية وتبنيها لعقود السياسات الاشتراكية.
أظهرت الأنظمة العربية ثباتًا ومقدرةً على قمع المعارضات الداخلية بالعنف
وبالرغم من اختلاف المرجعيات، فإنّ أغلب الأنظمة كانت أنظمة أحادية، فالنظام التونسي البورقيبي تبنّى العلمانية إلا أنه لم يكن يسمح بتعدّد الأحزاب. وإذا كانت مصر قد سمحت بالتعددية منذ أيام الرئيس السادات في السبعينات من القرن الماضي، إلا أنّ التعددية الحزبية كانت شكلية وتزيينية مع استمرار السلطات الخارقة التي يتمتّع بها الرئيس. والواقع أنّ هذه الأحادية التي هي شكل من أشكال الاستبداد، وضعت السلطة فوق القانون. بحيث تتحوّل الانتخابات الرئاسية أو النيابية إلى مهرجانات تأييد للحزب الحاكم وقائده.
ويمكننا أن نستثني بلدين عربيين سمحا بالتعددية الحزبية وهما لبنان حيث الطائفية السياسية تنتج شكلًا بدائيًا من التعددية، والمملكة المغربية.
ولم تمنع حقوق الدول المستقلة من تعديات دول الجوار، فالدول التي تدّعي المشروعية الثورية أعطت لنفسها حقّ التدخل العسكري في الدول الأخرى، مثل التدخل المصري في اليمن، والعراقي في الكويت، والسوري في لبنان، والليبي في تشاد.. وقد أظهرت كل أشكال الأنظمة العربية ثباتًا ومقدرةً على قمع المعارضات الداخلية بالعنف الذي يصل إلى نوع من أنواع الحرب الأهلية. ولم يسقط النظام العراقي (2003) إلا من خلال تحالف دولي على رأسه الولايات المتحدة الأميركية.
شهد العالم العربي أوسع موجة تغيير عام 2010-2011، حين اندلعت الانتفاضة الثورية في تونس التي أجبرت الرئيس بن علي على التخلّي عن منصبه، وأعطت الثورة التونسية إشارات إيجابية في إمكانية التغيير عبر الشارع بالوسائل السلمية، وبعثت الآمال لدى الشبان العرب في مختلف البلدان، كما أثارت المخاوف لدى الحكّام الذين توجّسوا من انتقال العدوى الثورية وهو ما حصل في غضون أسابيع قليلة. إذ انتقلت الثورة إلى مصر ثم إلى ليبيا ثم إلى سوريا وبعدها إلى اليمن، فضلًا عن التحرّكات المؤيّدة في عدد من البلدان الأخرى. ولم يكن إطلاق تسمية "الربيع العربي" عبثية، فالأوضاع المماثلة التي تعيشها الشعوب العربية تحت سلطة أنظمة أحادية واستبدادية أشعلت الانتفاضات والثورات، وإذا كنا لم نشهد تنسيقًا بين الثورات، فيعود ذلك إلى أنّ الأنظمة التي تمنع النشاط السياسي كانت حريصة دائمًا على قطع كل تأثير فكري أو سياسي قد يؤدي إلى تضامنات وتنسيق بين قوى التغيير بين بلد وآخر. وقد رأينا أيضًا انشغال الثائرين في كل بلد بهمومهم ومواجهة عنف السلطة وبطشها.
سلطات الاستبداد أفرغت البلاد من السياسة وأرجعت المواطنين إلى ولاءات دون وطنية
وبالرغم من عدم حدوث تحليل عميق يدخل إلى الأسباب التي أدت إلى إخفاق الربيع العربي في إحداث التغيير المنشود، أقترح المداخل التالية:
- عدم وصول الثورة في كل بلد إلى صياغة برنامج تغييري تُجمع عليه كل الأطراف، لقد سيطرت الشعارات مثل: الشعب يريد إسقاط النظام، وكرامة وحرية وعيش... ولكن لم تُجمع قوى الثورة والتغيير على برنامج مشترك.
- تشرذم قوى التغيير، وبعضها نشأ في الأيام الأولى للتحرّك، وبعضها تجمّعات وأحزاب قديمة بدت عاجزة عن مواكبة ديناميات الثورة.
- الانقسام العمودي للقوى المناهضة للنظام القائم من جهة مجموعات من اليسار والليبراليين والقوميين الذين يملكون رؤى تغييرية لكنهم لا يملكون قواعد شعبية. ومن جهة أخرى جماعات إسلامية لا تملك رؤى تغييرية ولكن لديها تعاطف شعبي وقواعد وخلايا ولجان أكسبتها الأكثرية عند أوّل انتخابات.
- التدخلات الإقليمية والدولية التي اتفقت جميعها على رفض التغيير الديمقراطي وتحرير البلاد من التبعية.
- لجوء السلطات الحاكمة إلى العنف دون التورع عن إشعال النزاعات الداخلية وإثارة الصراعات الأهلية.
لقد أشاع كثيرون أنّ ثورات الربيع العربي قد أدّت إلى نزاعات داخلية وتصدّع الدول، إن الثائرين العزّل لم يتسببوا بذلك، ولكن سلطات الاستبداد التي مضى على بعضها أكثر من نصف قرن في السلطة هي التي أفرغت البلاد من السياسة وأرجعت المواطنين إلى ولاءات دون وطنية كانت السبب الرئيسي فيما وصلت إليه ليبيا وسوريا واليمن.
لقراءة الجزء الأول: أُسُس النظام العربي الراهن (3/1)
لقراءة الجزء الثاني: أُسُس النظام العربي الراهن (3/2)
(خاص "عروبة 22")