في ظرف شهرين اثنين، مُنيت فرنسا بهزيمتين مذلّتين في النيجر، الأولى حينما أنهى مجموعة من الضباط حكم محمد بازوم، الرئيس الموالي للإليزيه، وأعلنوا عن إنهاء التعاون العسكري مع فرنسا وطالبوها بسحب قواتها وسفيرها من بلادهم. والهزيمة الثانية عندما رضخ الرئيسُ الفرنسي إيمانويل ماكرون لإرادة الانقلابيين بعد شهرين من العناد والمكابرة، وأعلن سحب سفيره خلال أيام وقوّاته قبل نهاية السنة الجارية.
كان بإمكان ماكرون تجنيب نفسه وبلده هذا الإذلالَ كلَّه لو تصرّف ببعض الحكمة واللباقة، وسارع إلى التفاوض مع قادة الانقلاب منذ البداية على مخرج مشرّف لقواته، وعلى طبيعة العلاقة بين البلدين في المرحلة المقبلة، لكنّه بدل ذلك آثر لغةَ الاستعلاء والعجرفة وهدّد، منذ اللحظة الأولى، بالتدخّل العسكري في النيجر عبر دول "إيكواس" الموالية له، وأوعز لها بفرض عقوبات اقتصادية أضرّت بالدرجة الأولى بالشعب النَّيْجَري الفقير وفاقمت معاناتِه المعيشية. ودفعت هذه الإجراءاتُ العقابية غير المستحقة والتهديدات الفارغة الشعبَ النيجَري إلى التمسّك بالقيادة العسكرية أكثر، والالتفاف حولها والمساهمة في حصار مقرّ القوات الفرنسية وسفارتها بنيامي، وأصبح السفيرُ الفرنسي هناك يتناول حصصا غذائية “عسكرية” فقيرة، وتراخت دول "إيكواس" بمرور الأيام وهي ترى مدى صلابة الانقلابيين والتفاف الشعب حولهم، وأصبحت تتحدّث عن فسح المجال للمساعي الديبلوماسية الإقليمية والدولية لإيجاد حلول سلمية لأزمة النيجر، وزاد انقلابُ الغابون الموقفَ الفرنسي ضعفًا بعد أن باركته باريس ضمنيًا وساقت له المبِّرر تلو الآخر، لأنّ الانقلابيين هناك لم ينادوا برحيلها من بلدهم، ولم يعد مقبولا دوليا أن تذرف فرنسا دموع التماسيح على الديمقراطية في النيجر وتغضّ الطرف عن الانقلاب عليها في الغابون.
فرنسا تدفع، إذن، ثمن عجرفتها وذهنيتها الفوقية الاستعلائية، وتخسر نفوذَها في بلدٍ إفريقي خامس بعد كلٍّ من إفريقيا الوسطى وغينيا ومالي وبوركينافاسو، والقائمة تبقى مفتوحة لدول فرنكفونية أخرى تسيطر عليها أنظمة فاسدة لا ترى ضيرا في التبعية العمياء لفرنسا، وفتحِ بلدانها على مصراعيها للمستعمِر السابق لنهب خيراتها وثرواتها باسم "التعاون والاستثمار"، في حين ما تزال شعوبُها تعاني الفقر والبؤس وتزحف زرافاتٍ باتجاه أوروبا في رحلات هجرة غير نظامية في قوارب الموت، وهو الوضعُ القاتم الذي يُؤلم، بالتأكيد، النخب العسكرية في هذه البلدان.
نأمل فقط أن تكون القياداتُ الجديدة في النيجر وكذا بوركينافاسو ومالي في مستوى التحدّيات الجسيمة التي باتت تهدّدها بعد الانسحاب الفرنسي، وفي مقدّمتها الإرهاب الذي عاد بقوة إلى هذه البلدان الثلاثة منذ أسابيع وأضحى يضرب بقوَّة ويُسقط ضحايا بالعشرات في كلّ مرة، وتحاول باريس ربطه بانسحابها من هذا الدول وضعف جيوشها وحتى بعدم رغبتها في محاربة الإرهاب، كما قال ماكرون عن جيش النيجر منذ يومين، بالرغم من أنّ وجودها العسكري في دول الساحل منذ أزيد من عقد لم يساهم في دحر هذه الآفة بقدر ما أدى إلى تفاقمها، وهنا ينبغي أن تكون هذه الدولُ في مستوى هذا التحدّي الخطير وتضاعف جهودها لتحجيم الإرهاب وصولًا إلى القضاء عليه مستقبلًا.
ثلاثةٌ من بلدان الساحل الإفريقي تتحرّر إذن من هيمنة فرنسا والأنظمة العميلة لها، ولكنّ بقي أمامها التحرّرُ من الإرهاب الذي عاد بقوة إليها، بالتزامن مع الانسحاب الفرنسي، وهو أمرٌ غير عفوي على الإطلاق. ويمكنها الاستعانة بالمجتمع الدولي لضمان دعم جيوشها بأسلحةٍ نوعية كالطائرات المسيَّرة وغيرها بعيدا عن أيِّ أشكال أخرى للتدخّل، بعد فشل تجربة 10 سنواتٍ كاملة من الوجود العسكري الفرنسي بهذه البلدان.. وجود غامض يطرح علامات استفهام كثيرة؛ ففي سوريا التي كان تنظيمُ “داعش” يسيطر على نصف أراضيها، ساعد التدخّلُ الروسي الفعّال الجيشَ السوري على تحريرها من قبضته في ظرف أقلّ من سنتين، في حين بقيت فرنسا "تحارب" جماعات إرهابية أقلّ قوةً بكثير من “داعش” في دول الساحل، مدة 10 سنوات كاملة بلا جدوى، بل زادتها انتشارًا وخطرًا؟!.
("الشروق") الجزائرية