قضايا العرب

من نكبة "المليشيات" إلى كارثة "درنة".. الليبيون في انتظار "الدولة"!

مجددًا يكتشف الليبيون، الذين يكابدون آلام الكارثة التاريخية غير المسبوقة للعاصفة المتوسطية "دانيال" التى اجتاحت مدن ومناطق شرق البلاد، حقيقة الفاتورة الباهظة لثمن غياب مؤسسات الدولة.

من نكبة

لا تعكس الأرقام المعلنة حتى الآن لعدد الضحايا من القتلى أو المفقودين، الحجم الحقيقي للفاجعة التي ضربت المنطقة الشرقية الليبية قادمة من اليونان على نحو مفاجئ. وتقدّر الأمم المتحدة حاجة 300 ألف شخص بالفعل إلى مساعدات إنسانية، بالإضافة إلى أكثر من 880 ألف شخص يعيشون في المناطق المتضرّرة من الفيضانات.

وفقًا لتقديرات اللواء خالد المحجوب مسؤول التوجيه المعنوي بالجيش الوطني الذي يسيطر على شرق ليبيا ويشرف على عمليات الإغاثة والإنقاذ، فإنّ الحصيلة النهائية ستكون كبيرة جدًا، وسط مخاوف من إمكانية وصول الرقم إلى نحو أربعين ألفًا جراء الكارثة الطبيعية التى حلّت بالبلاد.

فى الاجتماع الطارئ الذى عقده محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي مع عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة وفريقها للطوارئ، شدد المنفي على أنّ "الكارثة أكبر من قدرات البلاد". وهو المعنى نفسه الذي ردّده عبد الله باتيلي رئيس بعثة الأمم المتحدة، الذي كتب عبر منصة أكس، أنّ هذه الأزمة تتجاوز قدرة ليبيا على إدارتها، وتتجاوز السياسة والحدود. وأضاف بعد أن عاين الدمار الذي خلّفته الفيضانات في الأرواح والممتلكات الخاصة والعامة أنها "مشاهد تدمي القلب، نظرًا لحجم الكارثة".

وطبقًا لملاحظات البروفيسور بيتيري تالاس، الأمين العام لمنظمة الأرصاد الجوية الدولية، فإنّ مأساة ليبيا تسلّط الضوء على العواقب المدمّرة والمتتالية للطقس المتطرّف على الدول الهشة، وتظهر الحاجة إلى إنذارات مبكرة بشأن المخاطر المتعدّدة، بما يشمل جميع مستويات الحكومة والمجتمع.

وقال: "إنّ تجزئة إدارة الكوارث وآليات الاستجابة للكوارث في البلاد، فضلًا عن تدهور البنية التحتية، أدى إلى تفاقم ضخامة التحديات"، لافتًا الى أنّ "الوضع السياسي يشكّل محركًا للخطر، كما نشهد في العديد من البلدان حاليًا".

وأظهرت صور التُقطت بالأقمار الصناعية من المدينة، قبل وبعد الكارثة، أنّ المجرى المائي الذي كان ضيّقًا نسبيًا ويمرّ عبر وسط المدينة أصبح أكثر اتساعًا بكثير الآن مع اختفاء جميع المباني التي كانت قائمة حوله، كما ظهر بوضوح دمار جسيم في أنحاء أخرى من المدينة مع اختفاء المباني بعدما فاضت المياه من المجرى المائي.

وبحسب إحصائيات أولية قدّمتها وزارة الموارد المائية التابعة لحكومة الوحدة المؤقتة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، فإنّ تدفّق كمية المياه المخزّنة فى سدّي وادي درنة (أبو منصور، ووادى درنة) بأضعاف سعة السدود، أدى إلى إنهيارها، على الرغم من ملاحظتها أنّ بوابة تصريف مياه السد كانت مفتوحة مع اشتغال المفيض.

الكمية التى تحدثت عنها الوزارة تقدّر بنحو 23,5 مليون متر مكعب، ساهم تدفّقها بعد انهيار السدّين فى إلحاق خسائر بشرية ومادية فادحة.

ونتجت الفيضانات عن عاصفة قوية تسبّبت في انهيار سديّن قرب المدينة لتنطلق موجة هادرة من المياه وتدمّر رُبع، أو ما يزيد على رُبع، المدينة المطلّة على ساحل البحر المتوسط، جارفةً بنايات بسكّانها، فأحدثت دمارًا هائلًا وتسبّبت في انقلاب وتحطّم السيارات وغطّت شوارع المدينة بالحطام والوحل والركام، وانهار العديد من أبنيتها على ضفاف مجرى النهر فيما اختفى ناسها ومنازلهم ومركباتهم في المياه.

وتحيط التلال بالمدينة الواقعة على بعد 300 كيلومتر بالسيارة شرق بنغازي، ويمرّ فيها مجرى نهر يجفّ عادةً خلال الصيف، لكنه تحوّل إلى تيّار قوي من المياه الموحلة التي جرفت معها عددًا من الجسور الرئيسية، علمًا بأنّ درنة كانت تضمّ قبل الكارثة حوالى 100 ألف نسمة.

ورغم أن المشير خليفة حفتر التزم الصمت حيال تقارير تحدثت عن رفضه طلبًا من عميد مدينة درنة بإخلائها قبل ساعات من اجتياح العاصفة "دانيال" لها، ما ضاعف من حجم عدد الضحايا، نفى مصدران عسكريان مقرّبان من حفتر هذه الرواية ووصفاها بأنها "زائفة"، وعزّز اللواء أحمد المسمارى الناطق الرسمى باسم حفتر تصريحاته (التي نبّهت إلى وجود "مئات الأخبار الكاذبة" وأنّ "هناك من يحاول استغلال الموضوع") بلقطات مصوّرة تظهر قيام عناصر من الجيش بتحذير سكان مدينة درنة والمطالبة بإخلائها، بينما ألقى مسؤولون عسكريون بالمسؤولية عن هذه "الشائعات الكاذبة" على تنظيم "الإخوان المسلمين".

وكانت دراسة علمية نشرتها مجلة جامعة سبها للعلوم البحثية والتطبيقية عام 2022 قد حذرت من حدوث كارثة حال وقوع فيضان على سكان المناطق القريبة من حوض وادي درنة بسبب تهالك السدود القائمة بالمنطقة. وقالت الدراسة إنّ الوضع القائم في حوض وادي درنة يحتّم على المسؤولين اتخاذ إجراءات فورية تتصل بعملية الصيانة الدورية للسدود القائمة، منبهةً إلى أنه "في حالة حدوث فيضان ضخم فإن النتيجة ستكون كارثية على سكان الوادي والمدينة"، وموضحةً أنّ "الزيارة الميدانية إلى وادي درنة أظهرت وجود بعض المساكن في مجرى الوادي، الأمر الذي يتطلّب توعية المواطنين بخطورة الفيضانات واتخاذ كافة الاجراءات والتدابير اللازمة لضمان سلامتهم".

الدراسة التي أعدها عبد الونيس عاشور، الباحث بكلية الهندسة بجامعة عمر المختار بمدينة البيضاء، وحملت عنوان "تقدير عمق الجريان السطحي لحوض وادي درنة" دعت إلى "إيجاد وسيلة لزيادة الغطاء النباتي بحيث لا يكون ضعيفًا ويسمح للتربة بالانجراف للحدّ من ظاهرة التصحّر".

وبينما روّجت أوساط حكومية ورسمية، فكرة كون الكارثة طبيعية أو إلهية، يعتقد المراقبون أن ما حدث كان بالامكان تجنّبه، ما دفع إلى إعلان النائب العام الليبي الصديق الصور عن فتح تحقيقات فى ملابسات ما جرى، بعدما لفت إلى تخبّط فى القرارات الإدارية والمالية الخاصة بصيانة سدود درنة، ليخلص إلى طلبه السجن لـ4 مسؤولين في مدينة درنة بتهمة "إساءة إدارة العمل الإداري والمالي الموكل لهم"، ما تسبّب في حدوث كارثة فيضان السدّ بعد الإعصار، وذلك بعد أيام من إيقاف مسؤولين آخرين. وقال المكتب الإعلامي للنائب العام إنّ الموقوفين هم "عضوا المجلس البلدي بدرنة، ومدير مكتب مشروعات إعادة إعمار المدينة، بالإضافة إلى رئيس اللجنة الفنية المكلفة بتنفيذ مخطط إعمار المدينة".

وفشل مشروع أُطلق عام 2016 لإعادة بناء البنية التحتية المتضرّرة فى العديد من المناطق الليبية بسبب المعارك والحروب التي تسبّبت في خسائر بالبنية التحتية الأساسية مثل المدارس والمستشفيات... ليبقى الليبيون بعد نحو 12 عامًا على الإطاحة بحكم القذافي يبحثون عن الدولة التي طالما حلموا بها، دولة تملك مؤسسات تخطط وتقيم مشروعات البنية الأساسية، دولة تستفيد من ثرواتها وتعززها وتستثمرها بما يصب في صالح المواطنين لا في مصالح القوى المتصارعة على أراضيهم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن