أولاً: المنطق على طريقة المتقدمين ولنسمّها طريقة الفلاسفة، والمنطق عندهم هو: المدخل والمقولات والعبارة والقياس والبرهان والجدل والسفسطة والخطابة والشعر. فلمّا ترجمت كما يقول ابن خلدون أقبل عليها فلاسفة الإسلام بالشرح التلخيص. ورائد تلك الطريقة في السياق العربي هو الفارابي، ولم تصلنا أي مؤلفات منطقية قبله، باستثناء منطق ابن القفع وحدود ابن بهريز وبعض رسائل الكندي. ركّزت أعمال الفارابي على شرح منطق أرسطو وتقريب مضمونه. وقد طبع معظمها تحت عنوان المنطق عند الفارابي، والمنطقيات للفارابي.
كان الفارابي تلميذًا لـ متىّ بن يونس، كما درس النحو واللغة على ابن السراج، وكان ملمًا بالعديد من اللغات حتى قيل إنه يعرف 70 لغة. إنّ تعدّد مشارب الفارابي المعرفية واللغوية والدينية جعلته قادرًا على شرح مصطلحاته المنطق وبيان معانيه وإصلاح لغته، كما كان الفارابي أوّل من حاول استعمال أدوات من داخل السياق التداولي العربي الإسلامي لتقريب المنطق، مثل قياس الفرع على الأصل، وقياس الغائب على الشاهد.
وعلى نهج الفارابي سار يحيى بن عدي الذي ترك أكثر من 20 رسالة في المنطق، وأبو سليمان السجستاني المنطقي وقد طبع له صوان الكمة وثلاث رسائل، وابن زرعة الذي جمعت بعض آثاره تحت عنوان المنطق عند ابن زرعة. ثم أبو الفرج بن الطيب وأهم ما طبع له حتى الآن هو: الشرح الكبير لمقولات أرسطو، وشرح إيساغوجي وشرح العبارة.
كما يصنّف ابن سينا ضمن طريقة المتقدمين وخاصة القسم المنطقي من الحكمة العروضية والشفاء، وكذلك بهمنيار بن المرزبان صاحب التحصيل، وابن ملكا بغدادي الذي كان وفيًا لتقليد المتقدّمين في كتابه المعتبر في المنطق والحكمة، وينطبق الأمر على فلاسفة الأندلس: ابن باجة في التعاليق على الفارابي وابن رشد في كل أعماله المنطقية وقد طبع أغلبها تحت عنوان تلخيص منطق أرسطو، ثم ابن طملوس ولعلّه آخر من كتب على طريقة المتقدمين في الغرب الإسلامي، وقد ظهر عمله مؤخرًا تحت عنوان المختصر في المنطق.
طريقة الفقهاء هي تتويج لجهود ابن جزم والغزالي في دمج المنطق في العلوم الإسلامية
ولا بد أن أذكر هنا أنّ ابن سينا في أعماله المتأخرة مثل: الإشارات والتنبيهات ومنطق المشرقيين، خالف طريقة المتقدمين في أمور مهمة منها: أنه قسم القياس إلى اقتراني واستثنائي، وزمَّن القضية المطلقة، وميّز بين الجهات الذاتية والوضعية، وقال إنّ المقولات ليست جزءًا من المنطق على التحقيق. ولعلّ ذلك ما دفع الغبريني إلى اعتبار ابن سينا زعيم طريقة الأوسطين، في مقابل طريقة المتقدمين والمتأخرين.
وإذا جاز لنا أن نتحدّث عن طريقة الأوسطين فستضمّ إلى جانب أعمال ابن سينا المتأخّرة، أعمال الفقيهين البارزين: ابن جزم صاحب تقريب المنطق والمدخل عليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، والغزالي في أعماله المنطقية: محك النظر ومعيار العلم والقسطاس المستقيم، ويضاف إليهما القاضي ابن سهلان الساوي صاحب البصائر النصيرية.
ثانيًا: طريقة المتأخرين ولنسمّها طريقة الفقهاء، وهي تتويج لجهود ابن جزم والغزالي في دمج المنطق في العلوم الإسلامية، وتقوم على مجموعة من المستجدات في المنطق من حيث الشكل والمضمون والمصطلح. ورائد هذه الطريقة هو الفقيه الأصولي فخر الدين الرازي، كما تشهد بذلك مؤلفاته وشروحه المنطقية مثل: المنطق الكبير والملخص في المنطق والحكمة وشرح لإشارات والتنبيهات والآيات البينات وشرح عيون الحكمة ولباب الإشارات.
واستحكمت طريقة المتأخرين مع تلامذة الرازي المباشرين أو غير المباشرين مثل: زين الدين الكشي صاحب حدائق الحقائق، والخونجي الذي فصل ورسخ طريقة المتأخرين من خلال مطوله كشف الأسرار عن غوامض الأفكار، ومختصريه الموجز والجمل، والأبهري في: كشف الحقائق في تحرير الدقائق ومنتهى الأفكار في إبانة الأسرار وخلاصة الأفكار ونقاوة الأسرار ودقائق الأفكار وإيساغوجي، وكذلك نجم الكاتبي في: جامع الدقائق في كشف الحقائق وعيون القواعد والرسالة الشمسية، والأرموي في: مطالع الأنوار وشرح الإشارات والتنبيهات والمناهج ولوامع المطالع.
إذن طريق المتأخرين تقوم على إدخال المنطق في العلوم الشرعية، وتوظيف العلوم الإسلامية في إعادة صياغة مصطلحات المنطق وهندسته ورهاناته.
لا شكّ أن الفلسفة بالمعنى التقليدي في تلك الفترة انحسرت ولكن العقلانية تمدّدت
ويبدو أنّ هذه الطريقة المتأخرة، التي سمحت بالتداخل بين العلوم العقلية والشرعية، استفزّت آخر مدافع عن التعاليم الفلسفية والمنطقية على طريقة المتقدّمين في المشرق، أقصد عبد اللطيف البغدادي، فوجّه نقدًا لاذعًا لهذا الانحراف الذي تسبّبت فيه السينوية، والمتأثرون بها مثل: متمنطقة الفقهاء وغيرهم. لذلك نجده يهاجم الغزالي وفخر الدين الرازي، ويعتبرهما عاجزين حتى عن فهم فلسفة ابن سينا الذي يقلدونه. ويقول البغدادي إنّ من الآفة التي تسبّب فيها ابن سينا أنه كثر التآليف ونشرها في العالم، فتجرّأ على المنطق من ليس أهلًا لذلك، حتى تطاول إليه الفقهاء وصاروا "يتشدّقون بذكره ... من غير ملكة فيه، ولا معرفة بما يحتاجون إليه منه ولا كيف استعماله".
والحقيقة أنّ كلام البغدادي يحتاج إلى كثير من التدقيق، وسيظهر ذلك عندما نرجع إلى نصوص الفخر الرازي والخونجي، ونقارنها بما تصول إليه المنطق المعاصر. ولا شكّ أن الفلسفة بالمعنى التقليدي في تلك الفترة انحسرت ولكن العقلانية تمدّدت.
لقراءة الجزء الأول: هل كان الفقهاء أكثر إبداعًا من الفلاسفة في المنطق؟ (1)
(خاص "عروبة 22")