وجهات نظر

نزار قباني ناصريًا.. ظاهرتُه ومئويتُه

تحت صدمة الهزيمة العسكرية في يونيو (1967) أعاد اكتشاف موقعه ودوره، تمرّد على إرثه كشاعر للحب والمرأة، وبدأ عصرًا كاملًا من شعر الغضب العربي حتى أصبح أبرز رموزه.

نزار قباني ناصريًا.. ظاهرتُه ومئويتُه

بأبيات كحد السكين كتب في "هوامش على دفتر النكسة":

"أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغةَ القديمة

والكتبَ القديمة

أنعي لكم..

كلامَنا المثقوبَ، كالأحذيةِ القديمة..".

"أنعي لكم.. أنعي لكم

نهايةَ الفكرِ الذي قادَ إلى الهزيمة".

دوّت القصيدة في أنحاء العالم العربي، كأنها منشور سرّي يحرّض على الغضب.

وكانت إشارته إلى مسؤولية "جمال عبد الناصر" عن الهزيمة مباشرة وقاطعة.

"يا سيّدي..

يا سيّدي السلطانْ

لقد خسرتَ الحربَ مرّتينْ

لأنَّ نصفَ شعبنا.. ليسَ لهُ لسانْ

ما قيمةُ الشعبِ الذي ليسَ لهُ لسانْ؟".

تعرّضت أعمال نزار قباني للمصادرة في مصر.

جرت حملة صحفية عليه بدواعي الغيرة في النفوس، تصدّرها الشاعر صالح جودت.

بنصيحة من الناقد الأدبي الكبير رجاء النقاش، كتب خطابًا إلى عبد الناصر، الذي لم يكن قد قرأ القصيدة الغاضبة.

عندما أطلّ على نصّها أشّر بالنشر في مصر دون حذف حرف واحد.

إثر صدمة رحيل عبد الناصر أراد نزار أن يقول بكل وضوح: "أنا ناصري"

بعد سنوات قليلة من هذه القصة المثيرة اختلفت المواقع.

هاجم صالح جودت عبد الناصر بضراوة بعد وفاته، فيما أنشد نزار قباني قصيدة رثائية فاقت شهرتها "هوامش على دفتر النكسة":

"قتلناكَ..

يا حبّنا وهوانا..

وكنت الصديق، وكنت الصدوق،

وكنت أبانا..

وحين غسلنا يدينا..

اكتشفنا..

بأن قتلنا منانا..

وأن دماءك فوق الوسادةِ..

كانت دمانا..".

"فليتكَ في أرضنا ما ظهرْت..

وليتك كنت نبيّ سوانا..".

الفارق الزمني بين القصيدتين ثلاث سنوات.

والفارق الموضوعي هو نفسه الفارق بين نظام أخفق في حفظ سلامة حدوده ومشروع ألهم العرب ذات يوم أنهم قوة يُعتد بها في عالمهم، وأنهم يستطيعون أن يصنعوا مستقبلهم بأنفسهم.

عبد الناصر نفسه تبنى ذات الموقف الانتقادي للأسباب التي أدت إلى الهزيمة.

"إلى أين المسير بهذا النظام القديم؟".

هكذا طرح سؤاله في اجتماع للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي.

"الاستمرار فيما كنا عليه قبل 1967 مستحيل".

حاكم نظامه وذهبت انتقاداته إلى ما يقارب الثورة عليه.

دعا إلى مجتمع سياسي مفتوح، تعددي وديمقراطي، و"دولة مؤسسات وقانون".

إثر صدمة رحيل عبد الناصر أراد نزار أن يقول بكل وضوح: "أنا ناصري".

لم تكن تلك المصارحة مع القارئ تعبيرًا عن لحظة انفعال طارئ، فقد أثبتت الحوادث العاصفة التالية صدق خياره.

تكاد تجربته أن تتماهى مع تجربتي الأديبين الكبيرين بهاء طاهر ومحفوظ عبد الرحمن، اللذين أصبحا ناصريّين بعد الهزيمة لا قبلها، بدواعي الوطنية المصرية التي كانت أمام تحدٍ وجودي.

في حالة نزار قباني فإنها القومية العربية، بعد أن سقط علمها الأكبر وتبدى في الأفق أنها توشك أن تدخل منعرجات حادة تستهدف الفكرة كلّها والحلم الذي حلق فوق دمشق ذات يوم أن نكون دولة واحدة ومنيعة.

بعين الشاعر المرهف والقلق تابع حرب الاستنزاف.

رثى رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية الفريق عبد المنعم رياض إثر استشهاده على جبهة القتال الأمامية:

"يا أيها الغارق في دمائه

جميعهم قد كذبوا. وأنت قد صدقت".

بعد حرب أكتوبر (1973) كتب بفيض مشاعره أنّ "عمره يبدأ الآن.. واليوم فقط".

وطنيته السورية دعته إلى الفخر ببطولة الرجال وهواه المصري دعاه أن ينشد:

"تتعرف مصر على وجهها

في مرايا سيناء

تقرأ اسمها في كتاب

الشهادة وفواتير الوجود".

عادت الصدمات تحاصره من جديد، كأنها تنزع قلبه، واحدة بعد أخرى، من "كامب ديفيد" إلى "أوسلو".

"هل أتتك الأخبار يا متنبي

أن كافور فكك الأهراما".

ثم كانت اتفاقية أوسلو عام (1993):

"سقطت آخر جدران الحياء

وفرحنا

ورقصنا

وتباركنا

بتوقيع سلام الجبناء".

".. ودخلنا في زمن الهرولة

ووقفنا بالطوابير، كأغنام

أمام المقصلة

وركضنا

ولهثنا

لتقبيل حذاء القتلة".

اكتسبت تلك القصيدة شهرتها المدوية من أمرين رئيسيين.

الأول، مستوى الغضب العام على ما جرى في "أوسلو" خشية أن تلحق هزيمة استراتيجية بالقضية الفلسطينية.

والثاني، المساجلة حولها على صفحات جريدة "الحياة" اللندنية مع نجيب محفوظ.

كانا على طرفي نقيض من هرولة "أوسلو".

وصف الروائي الأشهر قصيدة "المهرولون" بأنها: "قوية فنيًا، لكنها تدافع عن موقف ضعيف"، و"لا تقدّم بديلا..".

ثم تساءل: "ماذا يفعل هؤلاء المتهمون بالهرولة، هل يجلسون ساكنين بلا فعل؟!".

ردّ نزار: "فليعذرني عميد الرواية العربية إذا جرحت عذريته الثقافية، وكسرت عادته اليومية، وقلبت فنجان القهوة التي يجلس عليها مع أصدقائه، إن القصيدة ليس لها عادات يومية تحكمها.. أو فعل روتيني تخضع له".

".. إذا كان الأستاذ محفوظ يرى موقفي ضعيفًا ويطالبني بأن أصفق لمسرحية اللا معقول التي يعرضونها علينا بقوة السلاح، وقوة الدولار، فإني اعتذر عن هذه المهمة المستحيلة".

"ماذا أفعل؟ إذا كان قدره أن يكون من حزب الحمام وقدري أن أكون من حزب الصقور".

أراد أن يشير إلى أنهما في موقعين سياسيين متناقضين، الأول، ينتمي إلى "كامب ديفيد" وتجربة أنور السادات في الصلح مع إسرائيل، والثاني، ينتسب إلى مشروع جمال عبد الناصر.

كلاهما تحدّث باحترام عن الآخر، لكن المواقف تناقضت بفداحة.

مرّت مئويته دون أن تثير ما تستحقه من مراجعات في تجربته الشعرية

تطرّق نزار إلى نقطة جوهرية تتعلّق بطبيعة الأدب ويستطيع أديب في حجم نجيب محفوظ أن يتفهمها: "ليس من وظيفة القصيدة أن تقترح الحلول وتجد البدائل وتكتب الروشتات للمرضى والمعاقين".

هذا العام مرّت مئويته دون أن تثير ما تستحقه من مراجعات في تجربته الشعرية، الأكثر انتشارًا وتأثيرًا في القرن العشرين، لاستكشاف كامل أبعادها السياسية والفنية والإلمام بظاهرته الفريدة.

كان ذلك تقصيرًا صحفيًا وإعلاميًا فادحًا يستوجب الاعتذار عنه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن