جاءت كلمات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش (78 عامًا) التي ألقاها في الجلسات المختلفة لتؤكد بؤس المشهد العالمي لما آلت إليه أحوال مواطني الكوكب من: "فقر وجوع وعدم مساواة وظلم وعجز وتدمير"، ما يستوجب إحداث تغييرات جذرية لمواجهته.
للمرة الأولى يُطرح حديث راديكالي حول أسس النظام الاقتصادي العالمي من داخل أروقة المنظومة الدولية
وهو ما توافق عليه كل من دينيس فرانسيس، الرئيس الجديد للجمعية العامة للأمم المتحدة، مع أمينها العام على ضرورة تغيير النظام الاقتصادي الراهن. فمن جانب، قال السفير فرانسيس: "لم يعد بوسعنا التسامح مع الأنظمة المالية غير العادلة التي تبقي البلدان محاصرة في حلقات مفرغة من الديون والحرمان". ومن جانب آخر، قال جوتيريش: "الوقت قد حان لإحداث تعديلات في نظام بريتون وودز"... لأن "الهيكلية المالية - الدولية - الحالية قد عفا عليها الزمن. إذ إنها تعكس اختلالًا وعدم عدالة، كذلك فشلًا في توفير شبكة أمان عالمية".
ولحديثي الرجلين أهمية كبرى، إذ إنه وللمرة الأولى يتمّ طرح هكذا حديث راديكالي حول واحد من أهم أسس النظام الاقتصادي العالمي السائد منذ الحرب العالمية الثانية، وذلك من داخل أروقة المنظومة الدولية.
فقبل ذلك كانت الدعوة إلى نظام اقتصادي جديد تأتي من قبل حركات مناهضة العولمة وأكاديميين واقتصاديين مثل: جوزيف استيجليتز (80 عامًا، الحائز على نوبل للاقتصاد في 2001، كما شغل موقع كبير الاقتصاديين في البنك الدولي وله انتقادات معتبرة للعولمة). بيد أنّ الجميع الآن قد بات متيقنًا بأنّ النظام الاقتصادي العالمي الراهن يدير العولمة ويسيرها لصالح القلّة الثروية على حساب الأغلبية من مواطني الكوكب. وأنّ المؤسسات المالية الدولية توقفت عن خدمة المصالح الاقتصادية للدول وشعوبها لصالح الرأسمالية العالمية، وهو أمر يصعب استمراره.
وفي هذا الإطار، اقترح جوتيريش ضرورة التوافق على "عقد كوني جديد" New Global Deal؛ يقوم على إعادة التوازن بين القوة والموارد من جهة وبين الدول المتقدمة والدول النامية. فنظام بريتون وودز الذي تأسّس في يوليو 1944 بولاية نيوهامبشاير الأمريكية، بحضور 44 دولة، لإرساء قواعد النظام المالي العالمي للقوى الدولية المنتصرة آنذاك، حيث كانت معظم دول العالم، التي قاربت الـ200 اليوم، ترزح حينذاك تحت نير الهيمنة الاستعمارية. بيد أنّ جوتيريش، ينبّهنا، في كلمته إلى الجمعية العمومية، إلى أنّ: العالم قد تغيّر، ومؤسساتنا لم تتغيّر بعد"، ومن ثم يدعو إلى "إعادة تصميم المعمار المالي الدولي" international financial architecture؛ بحيث يكون - بحق - خادمًا لكلّ الدول الأعضاء خاصة النامية وليس ناديًا أوليجاركيًا تتحكّم فيه قلّة متميّزة - في مصائر الغالبية من دول/مجتمعات/شعوب العالم من خلال اقتصاد احتكاري.
دعاوى إصلاح الأمم المتحدة ومؤسّساتها لم تعد صالحة
ويشير دليل أكسفورد للاقتصاد الامبريالي Oxford Handbook of Economic Imperialism؛ (700 صفحة - 2022)، إلى حقيقة "كيف يتمّ توظيف المؤسسات المالية الدولية بالتخديم على النادي الأوليجاركي أو الإمبرياليات الجديدة". ما أنتج تكريسًا للتبعية وإخلالًا بالنظامين البيئي المناخي وإفشالًا لخطط التنمية المستدامة التي لم يتحقق منها إلا 15% من المستهدف منها بالرغم من مرور أكثر من منتصف الجدول الزمني المقرّر لإنجازها. إضافة إلى أنه لم يزل 1,2 مليار مواطن في الكوكب يعانون من الفقر. وما يقرب من 10% من سكان العالم (800 مليون نسمة) يواجهون الجوع، إضافة إلى كثيرين يفتقرون إلى الفرص المتكافئة/الحياة الكريمة أو المواطنة المستدامة.
إنه واقع من "الإخفاقات الدراماتيكية" حسب جوتيريش لا بدّ من معالجته علاجًا جذريًا خاصة مع توقع وصول عدد سكان العالم إلى 9.5 مليار نسمة بحلول عام 2050، وعليه بات من الضروري، حسب السفير دينيس فرانسيس التحوّل إلى نمط إنتاج واستهلاك ومعيشة يحترم جميع البشر والكائنات والنظم البيئية ويوازن فيما بينهم. وهو أمر لن يتأتى ما لم يتغيّر النظام الاقتصادي الدولي ليكون أكثر عدلًا.
الخلاصة، أنّ دعاوى إصلاح الأمم المتحدة ومؤسّساتها التي كان يطالب بها البعض قبل سنوات - راجع دعوة المؤرخ الفرنسي دومينيك فيدال (73 عامًا) حول إصلاح المعمار الدولي وبخاصة مكوناته الاقتصادية/التنموية - لم تعد بعد صالحة. ويبقى السؤال؛ هل الدعوة الراديكالية لتغيير النظام الاقتصادي الدولي سوف تجد صدى.. وهل لدى دولنا أية تصوّرات في هذا الاتجاه؟.
(خاص "عروبة 22")