بدايةً، فإنّ ملامح المشروع الاقتصادي-الاجتماعي الناصري لم تكن واضحة وجاهزة من البداية، بل تطوّرت في ظلّ إرادة الاستقلال والتحرّر من التبعية السياسية والاقتصادية للاستدمار الغربي، وفي سياق مواجهة تحديات الواقع التي انطلقت من إيمان عبد الناصر بالاستقلال الوطني والوحدة العربية والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
وكان المحور الرئيسي للتغيير الاقتصادي وحتى الاجتماعي هو ثورة التصنيع في مصر، حيث كانت الخبرة التاريخية في كلّ الدول المتقدّمة تشير إلى أنّ قطاع الصناعات التحويلية هو البوابة الأكبر للتطوّر الاقتصادي-الاجتماعي بصفة عامة.
ثورة التصنيع في العهد الناصري
إزاء الهيكل الصناعي الفقير الذي اتّسم به قطاع الصناعة في مصر قبل عام 1952، رغم أنه كان يُعد من الأفضل في الدول النامية البائسة إجمالًا آنذاك، وجد عبد الناصر نفسه أمام ضرورة إحداث ثورة صناعية لبناء أُسُس اقتصاد صناعي قادر على التطوّر استنادًا على قواعد داخلية في مصر، إذا أراد لها أن تخرج من أسْر التخلّف الاقتصادي والصناعي وأن تسير نحو اللحاق بالدول الصناعية المتقدّمة.
وكان الاتجاه في البداية يتمثّل في فتح المجال أمام القطاع الخاص لقيادة التنمية الصناعية. وظلّ ذلك القطاع يسيطر بالفعل على 90% من الإنتاج الصناعي حتى عام 1960 قبل قرارات التأميم، رغم الزيادة التي حدثت في الأصول الصناعية المملوكة للقطاع العام بعد إجراءات تمصير الأصول الصناعية التي كانت مملوكة للدول التي اعتدت أو أيّدت العدوان على مصر عام 1956. لكن استثمارات الرأسمالية التقليدية في مجال الصناعة لم تزد عن 3,5 مليون جنيه عام 1952 بما يعادل أقلّ من 0,4% من الناتج المحلي الإجمالي آنذاك، بما أعطى لناصر إنذارًا مبكرًا بأنّ التنمية والنهوض لن يتمّا إلا بدور فاعل وقيادي للدولة.
وكان القطاع الخاص يتحرّك فرديًا وراء الربح ويتّسم بالعشوائية وغياب الاستراتيجية التصنيعية العامة والقطاعية. وكان أسيرًا لإشكاليات نشأته من طبقة كبار الملّاك في ظلّ احتلال أجنبي، فاستمرّ عاجزًا عن القيام بالمبادرات الاقتصادية وبناء الاستثمارات الضرورية لتحديث الاقتصاد والمجتمع، خاصة بعد ضرب تجربة طلعت حرب وهو أحد البنّائين العظام في التاريخ الاقتصادي الحديث لمصر. كما كان ذلك القطاع أسيرًا لشكوكه إزاء سلطة يوليو بما أدى إلى إحجامه عن المشاركة الاقتصادية الفعّالة، وهو ما قاد في النهاية إلى الخيار الناصري بقيام الدولة بالوكالة عن المجتمع بتحقيق التطوّر الصناعي، رغم أنّ الأفضل والأكثر فعالية كان ترك القطاع الخاص يعمل تحت إشراف وتوجيه الدولة وقيامها في الوقت نفسه بالعمل وقيادة النشاط الاقتصادي.
الدور المحوري المباشر للدولة ساهم في تحقيق طفرات هائلة في الإنتاج الصناعي المصري
وإذا كان صحيحًا أنّ الظروف قد لعبت دورًا في دفع نظام "يوليو" نحو صياغة استراتيجية جديدة للتصنيع من خلال ما وضعته من أصول كبيرة تحت يد ذلك النظام بعد التمصير وتأميم قناة السويس، فإنّ ذلك لا ينفي أنّ طموحات الاستقلال الوطني لذلك النظام، والبيئة الاقتصادية الدولية، قد ساهمتا بالحصّة الأساسية في صياغة ذلك التوجّه وتلك الاستراتيجية التصنيعية. وكانت البيئة الاقتصادية الدولية تشهد حالة من هيمنة الدولة على الاقتصاد في الدول الاشتراكية، والتي حققت نجاحات مبهرة آنذاك، وتتّسم بتدخّل واسع النطاق للدولة في الاقتصاد في الدول الرأسمالية الغربية وبخاصة في أوروبا، والتي توسّع دور الدولة فيها لإخراجها من الكساد العظيم في النصف الأول من ثلاثينيات القرن العشرين، وتوسّع أكثر لتمكينها من تمويل المجهود الحربي في الحرب العالمية الثانية، وتوسّع بشكل غير مسبوق لإعادة بناء ما خرّبته تلك الحرب بعد أن وضعت أوزارها، ولاستعادة التمدّد الاقتصادي في مختلف أسواق العالم، وذلك بالاسترشاد بأفكار الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز المتأثّر بالنظرية الماركسية وبالتجربة السوفيتية وإنجازاتها القائمة على تعظيم دور الدولة في خلق التوازن الاقتصادي الكلي وتحقيق التشغيل شبه الكامل للجهاز الإنتاجي ولقوة العمل.
وكان من الطبيعي أن يذهب التفكير أولًا إلى تأسيس المشروعات التي تنتج سلعًا صناعية بديلة لتلك التي تستوردها مصر من الدول الصناعية المتقدّمة ومن الدول الاستدمارية الكبرى بالأساس. وكان ذلك التفكير هو المدخل لصياغة سياسة الإحلال محل الواردات كاستراتيجية صناعية لمصر. وعندما انتهت الحكومة من مرحلة التأميم للصناعة المحلية في بداية الستينيات، أصبح القطاع العام هو القوة المسيطرة المسؤولة عن التنمية وأصبحت ملكية الدولة تمثّل 70% من الإنتاج، و 50% من العمالة، و 90% من جملة الاستثمارات الجديدة في قطاع الصناعة المصرية.
وقد ساهم الدور المحوري المباشر للدولة في قطاع الصناعة في تحقيق طفرات هائلة في الإنتاج الصناعي المصري، كما ساهم في اقتحام مجالات صناعية جديدة، وفي رفع معدل الاستثمار في مصر من 14% خلال خمسينات القرن العشرين، إلى 19,7% سنويًا خلال الخطة الخمسية الأولى 1959/1960 – 1963/1964.
الإنجاز الصناعي الناصري في أرقام
نتيجة التوسّع الصناعي السريع في العهد الناصري، زاد عدد العاملين في الصناعة التحويلية المصرية من 264,9 ألف عامل عام 1952، حسب إحصاءات الإنتاج الصناعي، إلى 669,2 ألف عامل بحلول عام 1969. أي أنّ نسبة الزيادة في عدد العاملين في الصناعة التحويلية خلال تلك الفترة بلغت نحو 152,6%.
وخلال الفترة من عام 1952 وحتى عام 1966 زادت قيمة الناتج الصناعي لمصر بنسبة 287%. وخلال الفترة المشار إليها ارتفع إنتاج الصناعات الكيماوية والدوائية، والطاقة والكهرباء، والصناعات الهندسية والكهربائية، وصناعات الغزل والنسيج، ومواد البناء والحراريات، والصناعات التعدينية، والصناعات البترولية، والصناعات الغذائية بنسبة 636%، 483%، 468%، 343%، 312%، 228%، 202%، 152% للصناعات المذكورة بالترتيب.
باختصار، غيّر جمال عبد الناصر وسياساته في مجال التصنيع قطاع الصناعة التحويلية بشكل جوهري سواء فيما يتعلق بهيكل ذلك القطاع أو حجم الناتج المتحقق فيه. وظهرت المشاكل الطبيعية للنمو الصناعي السريع مثل المخزون الراكد وضعف القدرة على اقتحام الأسواق الخارجية، وهي مشاكل كانت ستجبر الدولة على ابتكار حلول لها للانطلاق نحو آفاق اقتصادية أرحب، لكن العدوان الصهيوني المدعوم أمريكيًا عام 1967 لكسر فورة النهوض الاقتصادي المصري، أجبر مصر على توجيه مواردها لإعادة البناء العسكري استعدادًا لحرب جديدة مع الكيان الصهيوني.
استراتيجية الاعتماد على الذات أنتجت تنمية بلا أزمة مديونية
شكّل الاعتماد على الذات في تمويل التنمية خطًا حاكمًا خلال عهد عبد الناصر. لكن ذلك لم يمنع اللجوء للاقتراض من الخارج في حدود ضيّقة لتسريع عملية التنمية الاقتصادية من خلال بناء مشروعات قادرة من خلال إنتاجها على سداد القروض التي تمّ اقتراضها لتمويل إنشائها، وهذا يختلف كليًا عن فيضان الاقتراض الحكومي المصري الراهن لتمويل نفقات جارية ولسد العجز الهائل في الموازنة العامة للدولة بدلًا من إصلاحها، بما يؤدي للمزيد من تفاقم وتعملق الديون حاليًا مع العجز عن سدادها بما يؤدي للمزيد من الاقتراض!
وأدت فعالية الاستثمارات في العهد الناصري والشروط المنصفة للقروض التي حصلت عليها مصر من الاتحاد السوفيتي السابق إلى تخفيف عبء تلك الديون، حيث كانت الفائدة تدور حول 2,5% مع فترات سماح تتراوح بين 3 و5 سنوات، وكان السداد يتمّ بتصدير منتجات مصرية للاتحاد السوفيتي من إنتاج المصانع التي أقامها في مصر أو من صادرات زراعية. ولذلك لم تتجاوز الديون الخارجية المدنية لمصر خلال العهد الناصري وحتى انتهاء حرب أكتوبر 1973 نحو 2,7 مليار دولار، يضاف إليها ديون عسكرية تقرب من 2 مليار دولار غالبيتها للاتحاد السوفيتي السابق وتم إسقاطها فيما بعد، بينما حدث انفجار في الاستدانة في عهد الرئيس السادات بلا مبرّر ودون تحقيق إنجازات موازية نتيجة ضعف كفاءة ونزاهة تخصيص وتوظيف تلك القروض التي خلّفت مديونية تجاوزت 30 مليار دولار في نهاية عهد السادات.
مصر وكوريا الجنوبية والصين في العهد الناصري والآن
نتيجة لكلّ ما سبق، أصبحت مصر في مقدّمة الدول النامية في مجال التصنيع، وكانت تتفوّق في كلّ مؤشراتها الاقتصادية على بلدان مثل كوريا الجنوبية والصين في منتصف الستينات. وفي عام 1965 وحسب بيانات صندوق النقد الدولي (IFS 1990) بلغ الناتج المحلي الإجمالي المصري نحو 5,1 مليار دولار، مقارنةً بنحو 56,3 مليار دولار للصين، ونحو 3 مليارات دولار لكوريا الجنوبية. وبلغ نصيب الفرد من الناتج في مصر 173 دولارًا، مقارنة بنحو 78 دولارًا للفرد في الصين، ونحو 105 دولارات للفرد في كوريا الجنوبية. أي أنّ الناتج المحلي الإجمالي المصري كان 9,1% من نظيره الصيني، ونحو 170% من نظيره الكوري الجنوبي عام 1965. وكان متوسط نصيب الفرد من الدخل في مصر يعادل نحو 2,22 مرّة قدر نظيره الصيني، ونحو 1,65 مرّة قدر نظيره في كوريا الجنوبية في العام المذكور.
أما في الوقت الراهن فإنّ الناتج المحلي الإجمالي المصري المقدّر للعام 2023، يبلغ نحو 387 مليار دولار، مقارنةً بنحو 19374 مليار دولار للصين، ونحو 1722 مليار دولار لكوريا الجنوبية في العام نفسه. أي أنّ الناتج المحلي الإجمالي المصري أصبح مجرّد 2% من نظيره الصيني، ونحو 22,5% من نظيره الكوري. أما متوسط نصيب الفرد من ذلك الناتج في مصر فإنه يبلغ نحو 3644 دولارًا في عام 2023، مقارنةً بنحو 13721 دولارًا للفرد في الصين، ونحو 33393 دولارًا للفرد في كوريا الجنوبية في العام نفسه. أي أنّ متوسط نصيب الفرد من الدخل في مصر قد أصبح مجرّد 26,6% من نظيره الصيني، ونحو 10,9% من نظيره في كوريا الجنوبية في العام الحالي.
الصادرات السلعية المصرية أصبحت لا تزيد عن 1,4% من قيمة الصادرات الصينية، و7,2% من الصادرات الكورية الجنوبية
ولو أخذنا بالناتج المحلي الإجمالي الحقيقي المحسوب وفقًا لتعادل القوى الشرائية فإنه من المقدّر أن يبلغ في مصر في العام الحالي نحو 1803 مليار دولار، مقارنةً بنحو 33015 مليار دولار للصين، ونحو 2924 مليار دولار لكوريا الجنوبية.
أما الصادرات السلعية المصرية فقد بلغت نحو 49,3 مليار دولار عام 2022، مقارنةً بنحو 3594 مليار دولار صادرات صينية، ونحو 684 مليار دولار صادرات كورية جنوبية في العام نفسه. أي أنّ الصادرات السلعية المصرية أصبحت لا تزيد عن 1,4% من قيمة الصادرات الصينية، ونحو 7,2% من قيمة الصادرات الكورية الجنوبية في العام نفسه. وهذه المقارنة متكرّرة مع دول مثل إندونيسيا وتايلاند وتركيا والصين وماليزيا والهند وغيرها من الدول.
وتلك المقارنة تشير بوضوح إلى ما تمّ إنجازه في عهد عبد الناصر وارتفع بالاقتصاد المصري ووضعه المقارن مع الاقتصادات النامية الرئيسية، والانهيار الذي حدث في عهود من خلفوه وانحدر بالاقتصاد المصري ووضعه المقارن مع الاقتصادات نفسها التي أصبحت ناهضة أو صناعية متقدّمة.
(خاص "عروبة 22")