تقديري أنّ ما نعيشه ونراه ليس نتيجة عامل واحد، أو ظرف طارئ، بل محصّلة لتراكم استمر عقودًا طويلة.
وخلاصة هذه العوامل يمكن وصفها بجملة واحدة، فشل معظم الدول العربية في ملاءمة بنيتها وأنظمة حكمها ووضعها الداخلي مع حاجات التطوّر في مجتمعاتها، ومتطلبات العصر وتقلّباته، ومن مظاهر هذا الفشل:
أولًا: الضعف الاقتصادي
إذ تتسم اقتصاديات معظم الدول أولًا بضعف الإنتاجية بالمقارنة مع المستويات العالمية. وبارتفاع معدلات البطالة وخاصة بين الشباب، وانخفاض حصّة النساء في القوة العاملة. وتراجع وانخفاض مستويات التعليم المدرسي والجامعي مقارنةً بالتطوّر العالمي. وضعف فروع اقتصاد المعرفة والتكنولوجيا الحديثة، وغياب سياسات الضمان الاجتماعي وبرامج التنمية لمكافحة الفقر.
أما الأمر الأخطر فيتمثل في الفساد الاقتصادي الناجم أساسًا عن اندماج البيروقراطية السياسية الحاكمة بالاقتصاد الطفيلي، وعن استخدام جهاز الدولة وقوانينها وهياكلها الأمنية وسيلة للإثراء غير المشروع.
ثانيًا: إشكاليات الإطار العام للتنمية
إذ تشير دراسات الأمم المتحدة إلى خطورة أوضاع التنمية البشرية بما في ذلك غياب الحرية وحقوق المواطنة، وانتشار الفساد، ومعاناة الشباب من انعدام الفرص، ومعاناة المرأة من هضم حقوقها وابعادها عن المشاركة في صنع القرار والحياة السياسية، بالإضافة إلى معاناة المجتمع المدني من التضييق السلطوي.
ثالثًا: إشكاليات النظام السياسـي
وأهمها فشل نظرية حكم الحزب الواحد، أو المجموعة الواحدة، أو الفرد الواحد، ومن مظاهرها استخدام النظام الأمني للتحكم والسيطرة واستخدام الأجهزة الأمنية للسيطرة السياسية.
ويتعمّق هذا الأمر نتيجة ضعف البنيان السياسي الداخلي، والعجز عن بناء نظام يسمح بالتعددية السياسية وتوازن المصالح والانتقال السلمي للسلطة، واحترام حقوق الأقليات والمعارضة السياسية. وفي عصر انتشار حرية التعبير والديمقراطية والانتخابات الحرّة عالميًا، يجد الناس في هذه البلدان أنفسهم معرّضين للإذلال وإهانة كرامتهم ومحرومين من أبسط الحريات.
يضاف إلى ذلك الانغلاق السياسي ومطاردة حرية الرأي والتعبير في تناقض صارخ مع أربع ثورات هائلة شهدها العالم ودخلت كلّ بيت بما فيها الثورة التكنولوجية، وثورة المعلومات، وثورة الإتصالات، وثورة الإعلام.
عجزت حكومات عديدة عن التجاوب مع التضامن الوجداني العارم لشعوبها مع القضية الفلسطينية
ويترافق التفرّد السياسي مع غياب فصل السلطات، وتهميش أو قتل السلطة التشريعية، وجعل السلطة القضائية ختمًا مطيعًا بيد السلطة التنفيذية وهذه مظاهر التخلّف السياسي، أيًا كان الذي يمارسه. ونتيجته الحتمية أنها تجعل البنيان الداخلي للمجتمع والدولة ضعيفًا وهشًا أمام تدخلات القوى الخارجية واعتداءاتها. بما في ذلك فشل الأنظمة القمعية في مواجهة عدوانية إسرائيل وعجز حكومات عديدة عن التجاوب مع التضامن الوجداني العارم لشعوبها مع القضية الفلسطينية ومع صمود الشعب الفلسطيني وبسالته، وانهماكها في التطبيع مع إسرائيل.
ويؤدي ذلك كلّه إلى ضعف القدرة على بناء سياسات تدافع عن المصالح في عصر سادت فيه المصالح فوق القيم والمبادئ والارتباطات التاريخية.
رابعًا: إشكاليات الثقافة السياسية النفسية الاجتماعية
هناك إشكاليات اجتماعية نفسية للتطور الديمقراطي والحضاري حلّتها معظم دول العالم ولم يتم حلّها في معظم بلدان منطقتنا ومنها:
1- سواد النزعات الفردية التي تعطل إمكانية العمل كفريق.
2- عدم قبول مبدأ التعددية والمشاركة مما يؤدي إلى عنف مدمّر وحروب أهلية طاحنة وتفتّت لا قدرة لأحد على احتماله.
3- عدم قبول مبدأ التبادل السلمي للسلطة. فالحاكم لا يغادر إلا ميتًا أو قتيلًا أو طريدًا أو شريدًا.
4- تعثّر البنيان السياسي العصري في ظل سواد الولاء للقبيلة والعشيرة، الذي يؤدي في النهاية إلى هشاشة الاستقرار السياسي وأنماط الحكم وتوزيع الموارد والثروات ويكفي أن ينهار بنيان السيطرة في أي بلد كي تنكشف تحت القشرة حقيقة الانتماءات الحقيقية البعيدة عن أنماط التنظيم العصري.
5- الفشل في قبول التنوّع والتعايش معه والاستفادة منه، إذ إنّ التنوّع الطائفي واللغوي والمذهبي، هو مصدر قوة، ولكنه يتحوّل إلى سبب ضعف مريع في حالة الفشل في قبول حقوق الأقليات وتبني سياسات تشجيع التعاون والتكامل بين التنوّع البشري الموجود في كل بلد.
العالم العربي في أمسّ الحاجة اليوم إلى حركة نهضة جديدة تعيده إلى مكانةٍ فقدها
إنّ الوضع المريع الذي يعيشه العالم العربي اليوم ليس قدرًا، كما أنه ليس، ولا يمكن أن يكون، الخاتمة أو النهاية. بل لعلّه نهاية فصل ستتبعه فصول. ولا مستقبل للعالم العربي إلا إذا قاسم الانسانية القيم نفسها التي أصبحت عالمية مثل احترام حقوق الانسان والأقليات والمرأة ومحاربة الاستبداد ودرء الفساد.
غير أنّ التغيير ليس مجرّد أمنية. بل يلزمه قوى وحركات سياسية اجتماعية قادرة على الإبداع وتقديم الرؤية وقيادة التغيير.
ولعلّ العالم العربي في أمسّ الحاجة اليوم إلى حركة نهضة جديدة تعيده إلى مكانةٍ فقدها بعد أن كان في عصر من العصور عنوانًا للتقدّم الحضاري والعلمي والإنساني.
حركة نهضة جديدة تؤمن بالمستقبل وبنائه ولا تهرب إلى الماضي الذي مضى. تؤمن بالديمقراطية والمشاركة وليس بالتعصّب الأعمى والتطرّف العنصري.
الحلّ في التقدم للأمام وليس في العودة للوراء.
(خاص "عروبة 22")