صحيح من الصعب التعميم في بلد كبير مثل تركيا، ولا يمكن القول أيضًا إنّ كل، أو حتى أغلب، مَن ذهب إلى تركيا تعرّض لاعتداء، فهذه الحوادث رغم تكرارها حتى أصبحت ظاهرة، إلا إنه لا يمكن القول إنها غالبة.
واللافت أنّ أحد أسباب تفسير هذه الاعتداءات يرجع لنتائج انتخابات الرئاسة التركية التي أسفرت عن فوز رجب طيب أردوغان بعد منافسة شرسة مع كمال كليشدار أوغلو، وفوز حزبه "العدالة والتنمية" بأغلبية مقاعد البرلمان، وأصبحت التجربة التركية أمام وجهين أو تناقضين أحدهما لم تحلّه وهو المتعلق بالأجانب إجمالًا والعرب خاصة، والثاني حلّته بدرجة كبيرة وهو التناقض بين الإسلاميين الذين أصبحوا محافظين متديّنين، وبين الجمهورية العلمانية.
الاستقطاب السياسي الذي شهدته تركيا انعكس في سلوك عدواني بحق الأجانب وخطاب عنصري بحقّ العرب
فيما يتعلق بمعادلة التعامل مع العرب وخاصة اللاجئين السوريين، فقد بدت هناك مفارقة أنّ التيار المحافظ في تركيا الذي يمثّله أردوغان وحزبه (وعلى عكس الحال في الدول الأوروبية) هو الأكثر انفتاحًا على المهاجرين وعلى العرب وخاصة السوريين من القوى العلمانية التي يُفترض أن تكون ليبرالية، والتي اعتاد نظراؤها في أوروبا والولايات المتحدة أن يكونوا هم الأكثر انفتاحًا تجاه الأجانب مقارنةً بالقوى المحافظة.
فمواقف أردوغان قامت على قبول السوريين كلاجئين أو مقيمين وفي الوقت نفسه طرح سياسة ترحيل طوعية لبعض اللاجئين السوريين، في حين طالب منافسه كليشدار وحزبه "الشعب الجمهوري" بترحيل ۲ مليون سوري فورًا، وأيضًا شنّ بعض أطراف تحالفه السداسي حملات عنصرية ضد الأجانب وخاصة العرب.
إنّ هذا الاستقطاب السياسي الذي شهدته تركيا حول قضية اللاجئين السوريين انعكس في سلوك عدواني عقب الانتخابات مارسه بعض الأتراك بحق الأجانب ككلّ بمن فيهم السيّاح، وتصاعد خطاب عنصري بحقّ العرب واستدعاء جوانب من التاريخ تقول إنّ العرب خانوا الإمبراطورية العثمانية، وإسقاطها على الواقع الحالي لتبرير خطاب الرفض والكراهية، وهو أمر ضار بمستقبل العلاقات العربية التركية التي شهدت تحسنًا وتطوّرًا كبيرًا أعيد فيها الاعتبار للمشتركات الثقافية بين الجانبين مع احترامٍ لخصوصية كلّ بلد وخبرتها التاريخية، وهو ما يجب البناء عليه.
أما الجانب الإيجابي أو التناقض الذي نجحت الجمهورية التركية عقب مائة عام من تأسيسها في حلّه، فيتمثّل في قدرتها على أن تحلّ تناقضاتها الداخلية بطريقة ديمقراطية وسلمية كما جرى في الانتخابات الأخيرة بعد أن كانت تُحلّ بالدماء والانقلابات العسكرية.
إن التناقض الذي كان يُحلّ في تركيا بالعنف أو التحريض بين الأطراف الثلاثة "الكبرى" أي الجيش، القوى والأحزاب العلمانية، والتيارات الدينية والمحافظة، استقرّ في مشهد الانتخابات الديمقراطية الأخيرة التي فاز فيها المحافظ المتديّن رجب طيب أردوغان وحصل على حوالى ٥٢٪ من أصوات الناخبين في مقابل ٤٨٪ لمنافسه العلماني كمال كليشدار أوغلو.
والحقيقة أنّ الجمهورية التركية التي أسّسها مصطفى كمال أتاتورك في مثل هذا الشهر قبل ۰ ۰ ۱ عام فرض منظومة قيم جديدة على المجتمع "من أعلى"، وأطلق برنامجًا صارمًا للإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية بهدف بناء دولة قومية حديثة وعلمانية، فألغى الخلافة العثمانية، ونفى الأسرة العثمانية خارج البلاد، وسيطرت الدولة على كلّ المدارس وألغت التعليم الديني وتطبيق الشريعة، وحظرت تعدّد الزوجات، كما منعت النساء من ارتداء الحجاب وجعلت الأذان باللغة التركية، ولكن في الوقت نفسه أعطت الجمهورية الناشئة المرأة حقوقًا متساوية بما في ذلك الحق في التصويت وشغل المناصب الحكومية، كما نفذ سياسة التتريك ضد الأقليات العرقية، وقام بتغيير أسماء المدن والأماكن إلى اللغة التركية مثل القسطنطينية التي أصبحت إسطنبول وغيرها.
والمؤكد أنّ بدايات التجربة العلمانية التركية كانت إقصائية وفرضت نموذجًا حداثيًا علمانيًا يستبعد الدين من المجال العام وليس فقط المجال السياسي، ولكنها في الوقت نفسه فصلت الدين عن السياسة وهي قيمة ظلّت باقية حتى الآن رغم تغيّر نظمها الحاكمة.
وقد دخل الجيش في مواجهات خشنة على مدار عقود طويلة مع التيارات المعارضة وخاصة التي امتلكت مرجعية دينية إسلامية، ورفع شعار الدفاع عن العلمانية ومواجهة تهديد القوى الدينية، صحيح أنه أقصى أيضًا قوى ليبرالية ويسارية كثيرة إلا أنّ التيارات الدينية والمحافظة كانت هي أساس هذه المواجهات، فانقلب على رئيس الحكومة المنتخب الليبرالي المتصالح مع الدين "عدنان مندريس" في عام ۰ ٦ ۹ ۱ ثم أعدمه في واحدة من أكثر التجارب التركية قسوة ودموية.
ثم تكرّر تدخّل الجيش وإن بصورة أقل حدة في عام ١٩٧١ فيما عرف "بانقلاب المذكّرة" والتي أرسل فيها الجيش مذكّرة شديدة اللهجة لرئيس الحكومة في ذلك الوقت سليمان ديميريل يطالبه بوقف الفوضى والعنف والانهيار الاقتصادي مما دفعه إلى الاستقالة وتم تشكيل حكومة جديدة رضي عنها الجيش.
وعاد الجيش وتدخل مرّة ثالثة في انقلاب ١٩٨٠ واعتقل عشرات الآلاف من المعارضين.
مَن كانوا إسلاميين معادين للجمهورية التركية تحّولوا إلى محافظين متديّنين يؤمنون بالعلمانية المتصالحة مع الدين
أما التيارات المحافظة والدينية فقد انتقلت من تجاربها الأولى التي كانت تقوم أساسًا على العداء للجمهورية العلمانية وخاصة تجربة حزب النظام الوطني الذي كان طوال الستينيات في عداء مستحكم وعنيف مع النظام العلماني، إلى التطبيع مع جوهر مبادئه، واعتبر أردوغان وحزب "العدالة والتنمية" نفسه حزبًا محافظًا ديمقراطيًا وليس إسلاميًا أو دينيًا، وأسّس لنظام أقرب لعلمانيات أوروبية كثيرة مثل بريطانيا وبعيد عن النموذج الفرنسي، ودعم عودة المظاهر الدينية في المجال العام (رفع الحظر عن الحجاب في المؤسسات الحكومية والبرلمان، الاحتفالات الدينية وغيرها) وليس المجال السياسي كأيديولوجية دينية، كما لم تعد مصوغات وجود الأحزاب المحافظة هي العداء للجمهورية العلمانية إنما أصبحت صور ومبادئ أتاتورك حاضرة في كل مؤسسات الدولة السياسية والإدارية والقضائية ويقبلها الجميع.
أما حزب الشعب الجمهوري "حارس العلمانية" الذي حرّض الجيش ضد رفيقهم السابق "عدنان مندريس" في خمسينات القرن الماضي، فعاد ورفض محاولة الجيش الفاشلة في الانقلاب على أردوغان في ٦ ۲۰۱ ولم يستدعه للتدخّل في المسار السياسي حتى لو طالب بضرورة احترامه.
نجحت التجربة التركية في حلّ الجانب الأكبر من تناقضاتها الداخلية بين العلمانيين والمتديّنين بطريقة سلمية مدنية، وحوّلت من كانوا إسلاميين معادين للجمهورية التركية إلى محافظين متديّنين يؤمنون بالعلمانية المتصالحة مع الدين، كما حوّلت أغلب العلمانيين المتشددين الذين يرفضون أيّ مظهر ديني في المجال العام إلى "علمانيين طبيعيين" يرفضون تسييس الدين والأيديولوجيات الدينية ولكن يقبلون بحضوره في المجال العام والثقافي.
بقي التناقض الثاني المتعلّق بعلاقة تركيا بالآخر، وخاصة الجانب العربي، وهو أمر لم يُحل مجتمعيًا بشكل كامل بعد حتى لو كانت العلاقات الرسمية جيدة، وهو تحدٍ يمكن حلّه بالتوقّف عن استدعاء خبرات تاريخية دون داعٍ بعد أن باتت جزءًا من الماضي، وأيضًا إيجاد حلّ سياسي اجتماعي لمشكلة اللاجئين السوريين يحفظ لهم كرامتهم طالما يقيمون بشكل شرعي داخل الأراضي التركية.
(خاص "عروبة 22")