هؤلاء هم القلّة المبدعة من البشر، الذين لا يموتون بفناء أجسادهم بل يدخلون دورة حياة جديدة في عوالم عقولنا وأفلاك أرواحنا، حتى إن بعضهم يبدأ حياته الحقيقية بعد موته العارض، بفعل قوة حضوره الرمزي، الملهم لوجودنا ضد كل صور العدم، والمحفز لنضالنا ضد كل أشكال الطغيان، فدومًا يبقون هنا، داخل الزمان، وإن رحلوا بعيدًا، خارج المكان.
ولعل المفكر الكبير إدوارد سعيد (1935 ـ 2003)، الذي مرّت علينا ذكرى رحيله العشرين قبل أيام (25 سبتمبر) أحد أبرز هؤلاء الأفذاذ، بما جسّده من نضال معرفي وأخلاقي وسياسي، انتصارًا للعدالة الدولية والحق الفلسطيني معًا، ذلك النضال الصادق مع النفس، الملتزم بالإنسانية، الذي جعل حياته مرآةً لهويته، وهويته إلهامًا لحياته، قبل أن يغيّبه الموت ويغادر المكان.
كان طبيعيًا أن يفضي به التزامه الوطني قبل الإنساني إلى الدفاع الشرس عن الحق الفلسطيني
عاش سعيد حياة ثرية ناهزت العقود السبع، قضى الأخير منها في صراع شرس مع المرض الخبيث قبل أن يذوى جسده الواهن النحيف من أسفل عقله الفتي المنير. كما انطوى على هوية كوزموبوليتانية، تداخلت فيها عناصر من ثقافات شتى لا تجتمع إلا نادرًا، ولا تتكامل إلا استثناءً: من عربية نبتت في رحم فلسطيني، وولدت في فضاء لبناني وتفتحت في مناخ قاهري. إلى أمريكية أينعت عبر مراحل الدرس والتدريس بين الأساتذة والزملاء والطلاب في جامعة كولومبيا حيث تعلّم الأدب المقارن واستوعبه ثم وسّع مداركه فبلغ به أفق النظرية الثقافية، مندفعًا ـ كجلّ العقول الكبيرة ـ إلى فضاء النزعة الإنسانية الرحيب المتعلق بأسمى مثل التنوير كالعدل والحرية والسلام، والرافض لكل أشكال العنصرية التي جسّدها في الثقافة الغربية تيار متمركز حول ذاته، تورط في وحل النزعة الكولونيالية التي نالت من كل شعوب الدنيا اقتصاديًا وسياسيًا بزعم دنوها أخلاقيًا وفكريًا وحضاريًا قياسًا إلى الشعوب الأوروبية المسيحية، ذات الرسالة الكونية، المعنية بترقية تلك الشعوب البدائية الواقعة خارج أسوار المدنية الغربية.
ونتيجة لسعة ثقافته، وتنوّع مواهبه، فقد تنوّعت وسائل نضاله الإنساني، الذي خاض في دروبه مرارًا وتكرارًا، سواء في المحاضرات الجامعية المنتظمة، أو في السجالات الصحفية المتكررة، وخصوصًا في مؤلفاته الفكرية البارزة التي قاربت العشرين كتابًا، يأتي على رأسها الإستشراق، والثقافة والإمبريالية، تغطية الإسلام، وخارج المكان. ناهيك بالطبع عن مواقفه السياسية المباشرة، التي عكست اتساقه مع نفسه في كل الأحيان. كان طبيعيًا أن يفضي به التزامه الوطني قبل الإنساني إلى الدفاع الشرس عن الحق الفلسطيني بالنثر الفكري والنقد الأدبي، مثلما كان محمود درويش هو الصوت الشاعري لهذا الحق، وناجي العلي هو ريشته ولونه فائقي التعبير.
عارض اتفاق أوسلو مستشرفًا أفقه المسدود وهو ما تأكد للجميع بعد وقت غير طويل
بدأ رحلة نضاله أعقاب هزيمة يونيو 1967، وضياع حلم الدولة، وتشرّد ما بقي من عرب فلسطين بين الهجرة واللجوء والحياة في المخيمات على الحواف والتخوم، فيما يشبه مأساةً إغريقية عبرت الزمن وطافت فوق القرون لتستقر في قلب القرن العشرين. ثم ازداد حضوره في القضية/المأساة، بتعرّفه على قائدها، رئيس حركة "فتح" ثم منظمة التحرير ياسر عرفات عام 1974 في أروقة الأمم المتحدة حيث ألقي الأخير أول خطبه أمام جمعيتها العامة. استمر ذلك الحضور بل ازداد تألقًا بمرور الوقت وذيوع شهرة سعيد في الأوساط الثقافية الأمريكية والغربية والعالمية، خصوصًا أعقاب تأليفه كتاب الاستشراق 1978. ولكن جاء اتفاق أوسلو 1993م، ليفسد العلاقة بين الرجلين: القائد السياسي، والرمز الفكري، بفعل تناقضات الرؤى والتصورات، حيث عارض سعيد الاتفاق مستشرفًا أفقه المسدود، وهو ما تأكد للجميع بعد وقت غير طويل، شهد حصار عرفات نفسه داخل بيت صغير في رام الله، على نحو يشبه الإذلال، وربما انتهى بالاغتيال الذي تثور حوله شبهات وتكهنات غير مقطوع بها، ولن يتم أبدًا حسمها، لأسباب كثيرة تمس الكثيرين.
... وللحديث بقية.
(خاص "عروبة 22")