عندما رأيتُ صباح السبت 7 أكتوبر/ تشرين الأول، عربات يدوية الصنع ترتفع عن طريق "باراشوت" لتجاوز الأسوار المسلّحة القبيحة التي تحيط بقطاع غزة وتهبط داخل المستعمرات التي بناها الاحتلال ليشتبك من بها من مقاومين بكل بسالة مع جنود الاحتلال المدجّجين بالسلاح، تذكرتُ ما كان يُعرف بـ"البالونات المتفجرة" التي أبدعها أيضًا فلسطينيون في غزة قبل سنوات، وكيف أنها أصابت العدو بالهلع والذعر، لدرجة أنه طالب كافة الوسطاء بالضغط على الفلسطنيين كي يتوقفوا عن استخدام ذلك السلاح البسيط الذي لا يمكن مقارنته بطائرات (أف-35) ومنظومة القبة الحديدة والصواريخ المتطورة والمسيّرات التي تصوّر كل قرية ومدينة في فلسطين على مدار الساعة.
يتشدّق رئيس حكومة اليمين الصهيوني، بنيامين نتنياهو، بأنّ العرب يجب أن يتخلّوا تمامًا عن ربط ملف السلام بتحرير الأراضي الفلسطينية والعربية، مقدّما شعار "السلام مقابل السلام،" بدلًا من "الأرض مقابل السلام"، كما يسرّب مسؤولون إسرائيليون تصريحات تفيد بأنه في المفاوضات الحالية من أجل تطبيع العلاقات مع المملكة السعودية بوساطة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، فإنّ القضية الفلسطينية ليست هي الشاغل الأكبر، وأنها مجرد قضية على "جدول الأعمال".
لا أمن ولا أمان للإسرائيليين بعد أن شاهدهم العالم يتسابقون للفرار من المستعمرات التي بنوها عنوةً على أراضي فلسطين
وكما هو الحال منذ إطلاق مسار أوسلو في العام 1993 على يد المنظّر الصهيوني شيمون بيريز، يتصوّر قادة كيان الاحتلال أنّه يمكنهم شراء الفلسطينيين بالمال، وأنه لو تمّ تقديم مليارات الدولارات لهم لخلق وظائف وتحسين البنية التحتية وإعادة توطين اللاجئين في العراق وكندا ودول قريبة وبعيدة، فإنّ ذلك سيجعلهم يتجاوزون رفض احتلال أراضيهم وإصرارهم على حقّهم بالعودة وسعيهم لخلق دولتهم المستقلة.
تحدّث بيريز بطموح أكبر عن إقامة "شرق أوسط جديد" كي يخدع العرب ويُمنيهم بالمنّ والسلوى وبيع زهور قطاع غزة في أسواق أوروبا، أملًا في أن يتخلّوا عن دعم مطلب إقامة دولة فلسطينية. وبعد ثلاثين عامًا فإنّ رئيس الوزراء الإرهابي الحالي يتحدث فقط عن "تقديم تسهيلات لتحسين مستوى معيشة الفلسطينيين"، ستبقى أقلّ بكثير مما تلقوه من تعهدات في "اتفاق أوسلو" الذي مات منذ سنوات، مع تخلي آخر الرؤساء الأمريكيين المعتدلين، باراك أوباما، عن وعده بتحقيق السلام وإقامة الدولة الفلسطينية.
وكان أقصى ما قدّمه أوباما هو قرار من مجلس الأمن قبل انتهاء فترته الرئاسية بأسابيع يؤكد على رفض إقامة المستعمرات اليهودية على الأراضي الفلسطينية الخاضعة للاحتلال منذ عام 1967. وعندما خلفه الأهوج المتطرّف دونالد ترامب في البيت الأبيض، سارع بسحب موافقة الحكومة الأمريكية على القرار الأممي الذي انتهى مصيره بالانضمام لعشرات القرارات التي تحتفظ بها المنظمة الأممية في الأدراج دون تنفيذ عندما يتعلق الأمر بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
وبعمليات المقاومة البطلة الأخيرة، وإعلان نتنياهو أنّ الكيان الصهيوني الآن في "حالة حرب" ضد قطاع غزة المحاصر، يتوقّع الجميع من الدول التي طبّعت أو تفكّر بتطبيع العلاقات مع العدو المحتل في إطار ما عُرف بـ"الاتفاقيات الإبراهيمية" أن تعلن تجميد اتصالاتها مع حكومة الاحتلال، وأن تكون الأولوية الآن هي البحث عن كل السبل المتاحة لحماية أرواح وممتلكات الفلسطينيين.
يعلم الجميع أنّ نقطة قوة العدو كانت في تفوّقه العسكري وإظهار قدراته المتعددة في "الردع المسبق"، وكذلك حقيقة أنّ الأساس الذي قامت عليه دولة الاحتلال منذ نشأتها عام 1948 هو قدرتها على توفير الحماية لملايين المهاجرين اليهود في وطنهم الجديد. اليوم لا أمن ولا أمان بعد أن شاهد العالم مئات الإسرائيليون يتسابقون للفرار من المستعمرات التي بنوها عنوةً على أراضي فلسطين، وبعد وقوع جنود الاحتلال أسرى في يد رجال المقاومة الذين تمكنوا من استعراض قوتهم في قلب المستعمرات الصهيونية. لذا من المؤكد أنّ الرد الإسرائيلي سيكون شديد القسوة، وهو ما يزيد من حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الدول العربية والمجتمع الدولي لتقديم كل أشكال الحماية العاجلة للفلسطينيين.
جسارة وجراءة العمليات الفلسطينية صباح السبت، في وقت كان يظن فيه البعض أنّ حركة "حماس" تتمسك بالتهدئة بعد جولة المواجهات الأخيرة التي اقتصرت على اشتباكات بين جيش العدو وحركة "الجهاد الإسلامي"، تؤكد أن لدى الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية المحتلة قرارًا استراتيجيًا بتصعيد المقاومة، وتجاهل كل ما يقدّم لهم من إغراءات خليجية ودولية بمساعدات مالية سخية ومناطق صناعية وزيادة أعداد التصاريح للعمال الفلسطينيين، وربما نقل بعض الصلاحيات في مناطق محدودة من الضفة للسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس.
كان العدو واهمًا حين ظنّ أنه بتوقيعه اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية سيجهز على القضية الفلسطينية
كما تؤكد الهجمات المبهرة للمقاومة أنّ الكيل قد فاض وطفح أمام الانتهاكات اليومية للعدو منذ وصول الحكومة الإرهابية الحالية للحكم بداية العام. القتل اليومي للفلسطينيين، والتوسّع في بناء المستعمرات، وتصريحات وزراء حكومة الاحتلال التي لا تطالب فقط بتهجير الفلسطينيين من أرضهم ولكن تنفي وجودهم كشعب من الأساس، والاعتداءات على المسجد الأقصى وانتهاك حرمته والسعي تدريجيًا لفرض السيطرة التامة عليه، كل هذه الممارسات البغيضة لم تدع مجالًا أمام الفلسطينيين سوى المقاومة والاعتماد على أنفسهم لتحرير وطنهم.
لم يعد العالم العربي قائمًا كما عرفناه، وانهارت دول بأكملها كانت قد اعتادت تقديم الدعم للفلسطينيين، وانشغل كل شعب عربي بمشاكله الداخلية القاسية التي فتّت الأوطان وجزّأتها. يدرك الفلسطينيون ذلك جيدًا ولذلك كان قيامهم بالعمليات الجريئة الأخيرة هو أبلغ رد للتأكيد على حقّهم المشروع في المقاومة.
ومقابل ما نتوقعه من حجم كبير من الضحايا على يد جيش الاحتلال في غزة والضفة الغربية والقدس، ربما تكون هجمات المقاومة الأخيرة في علمية "طوفان الأقصى" هي المدخل لإجبار العدو على الاعتراف بأنه كان واهمًا حين ظنّ أنه بتوقيعه اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية سيجهز على القضية الفلسطينية وسينهي أمل الفلسطينيين في دحر الاحتلال عن أراضيهم وإقامة دولتهم المستقلة.
(خاص "عروبة 22")