اقتصاد ومال

العرب والاستثمار في الاقتصاد الرّقمي

يرتبط مفهوم الاقتصاد الرّقمي بالاستعمال الموسّع لتكنولوجيا المعلومات والاتّصال في مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية. ولا يمكن اليوم تصوّر أيّ إطار وموضوع للتّنمية والأمن في السيّاق الذي يفرضه تحوّل العالم مستقبلًا، بدون وضع خرائط تأسيسية ودائمة لهذه التكنولوجيا، لها القدرة على المنافسة وخلق فرص التميّز والتجدّد الدّائم.

العرب والاستثمار في الاقتصاد الرّقمي

تؤكّد الدراسات العلمية في الاقتصاد، أنّ هناك اتّجاهًا واحدًا مُركّبًا في خلق التّنمية بالمعايير التي تحدّدها قيمة النّجاح والتفوّق في السّنوات القادمة. يتعلّق الأمر بإبداع مسار بإيقاعات مُتجدّدة لثورات الاقتصاد الرّقمي. شريطة ألاّ يكون هذا المسار مجرّد إجراءات موازية للاقتصاد، بمعنى حاضرة في التصريحات الحكومية كتقليعة للتحديث بدون أساس استراتيجي.

ما ينتظر البلاد العربية هو ترسيخ رؤية استراتيجية لاقتصاد رقمي له كل مقوّمات رفع تحدّيات المنافسة وتحويل اقتصاداتها إلى فرص للتكيّف مع ضغوط القيّم العالمية الجديدة وامتصاص غطرستها التّجارية والمالية. يبقى السّؤال، ماذا يحظّر العرب ليكون لهم وجود في العالم القادم؟

تباين عميق بين الدول العربية في الوعي ونوعية التّعامل مع تحدّيات الرقمنة والذّكاء الإصطناعي

يجب بدايةً أن نميّز بين انتاج هذه التكنولوجيا وبين استعمالها في الحياة اليومية. فبقدر ما يُمكّن إنتاجها من خلق طفرة كبرى في إنتاج الثّروة، بقدر ما يكون الاكتفاء باستيرادها واستعمالها فقط، مُعَرْقِلًا لقدرة الاقتصاد على المساهمة في التحوّلات العالمية الكبرى، ومن ثمّة، بقاؤه في دائرة رمادية تنتهي به إلى ما يُشبه الاقتصاد البدائي و"السّكتة القلبية"؛ لأنّ مبدأ المساهمة في الإنتاج وجاهزية خوض المنافسة العالمية هو شرط لا غنى عنه مستقبلًا في تحقيق وجود الدّول وتأكيد هويّتها وسيادتها.

ورد في مقدّمة تقرير نشره خبراء اقتصاديون لشركة "هانسون روبوتيكس" أنّ الاكتفاء باستيراد الذّكاء الإصطناعي من طرف الدّول المستهلكة، يفضي بالضرورة إلى تبعيات بنيوية للدول المُنتجة، وفي طليعتها ثلاث تبعيات: اقتصادية، أمنية وثقافية. يعني هذا الكلام، أنّ الدّول المكتفية بالوقوف عند حدود استهلاك تكنولوجيات الرقمنة تحكم على نفسها بالموت التّاريخي نتيجة عجزها عن مسايرة العصر وقوّة استثمارها في مستقبل.

هناك بين الدول العربية تباين عميق في الوعي ونوعية التّعامل مع تحدّيات الرقمنة والذّكاء الإصطناعي. فإذا كانت الإمارات والسّعودية وقطر تؤسس لاستراتيجية تنويع اقتصادها بعيدًا عن النّفط بالاستثمار في مجال الذّكاء الإصطناعي وتوظيفه في القطاع الصناعي والمالي والصّحة والتّعليم والإعلام، فإن هذه الإستراتيجية لا تخرج عن نهج نقل التكنولوجيا وأساليب استعمالها بما يوافق التوجّهات الحكومية في هذا الشّأن.

من خلال الاستثمار في إنتاج تكنولوجيا الرّقمنة والذّكاء الاصطناعي تتحقّق هويّة الاقتصاد العربي الجديدة

إنّ التركيز على إنشاء البنية التّحتية ورصد الاستثمارات الضّخمة والانفتاح على كفاءات متخصّصة بدون رؤية إنتاجية وخريطة طريق تحمل هدف الاستثمار في الإنتاج، تظلّ سطحية ومجانبة لما ينبغي أن يكون. فإذا كانت رؤية الإمارات، مثلًا، وهي رائدة عربيًا في انشغالها بوضع استراتيجية للذّكاء الإصطناعي، تجتهد في تحديد أهداف ما أطلقت عليه مئوية الإمارات 2071 ، فهي قد غفلت عن وضع خرائط وأهداف عملانية لإنتاج التكنولوجيا. لأن الهدف من رؤيتها لا يتجاوز سقف استعمال الذكاء الإصطناعي "في الخدمات وتحليل البيانات بمعدل 100 في المئة بحلول 2031".

وبالرّغم مما يبدو من مفهومها لـ"الحكومة الذّكية" من قوّة وجدّة، فإنّ مختلف مكوّنات أهدافها خدماتية واستثمارية في الاستعمال وليس في الإنتاج والابتكار، صحيح قد نجد بعض التعابير المُتّصلة بالإنتاج في المتن الرّسمي، لكنها تبقى معزولة وغير مؤسّسة لرؤية الإمارات واستراتيجيتها.

إذن، ليس أمام الاقتصاد العربي من خيار إلا الاستثمار في إنتاج تكنولوجيا الرّقمنة والذّكاء الاصطناعي. إذ من خلاله تتحقّق هويّته الجديدة ككيان سياسي وثقافي له إسهامه في دورة الاقتصاد العالمي القائم أساسًا على الابتكار والمنافسة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن