تدلّ "الأمّة" في الاشتقاق اللاتيني على فعل أنجب وولد، الأمر الذي يُشير إلى دلالة الانحدار من أمّ واحدة أو سلالة أو جماعة ذات أصل واحد تسكن أو تتشارك أرضًا واحدة، مما يجعلها ترادف بشكل ما مصطلح "الوطن" الذي يملك حدودًا جغرافيةً وشعبًا تقوده دولة واحدة، حيث تحضر هنا دلالة السيادة السياسية.
بالعودة مثلًا لبداية تشكل الأمّة الفرنسية نجد أنها تعكس دمجًا أو توليفةً لعدد من القوميات المتواجدة في شمالي وجنوبي فرنسا، وساهمت هذه التوليفة في تأسيس ما اصطُلح عليه لاحقًا "أمّة فرنسية"، دلالةً على الانتماء القومي الواحد التابع للحكم الفرنسي، إذ الأمّة قد تضمّ قوميات متعددة، من أجل لمّ شمل تعددي تحت سلطة سياسية واحدة، لكن، ألا نرادف هنا بين الدولة والأمّة بما هي لمّ أو تجميع قوميات متعددة؟
تاريخيًا، ارتبطت نشأة القوميات بالقرن التاسع عشر في معناها الحديث، الذي تزامن بشكل ما مع المعنى الذي يُرادف بين مفهومي الدولة والأمّة في أوروبا، حيث لبست الهوية القومية رداءً سياسيًا يعكس تاريخًا مشتركًا وثقافة مشتركة.
الأمّة أفسح من ناحية التعدّد من القومية
نزعم أنّ العرب استلهموا هذا الإطار في التنظير العربي لمفهوم القومية، لأنّ هدفه بالأساس كان يروم تحقيق السيادة على شمل يجتمع على قواسم مشتركة، جهود قومية عربية لطرح توجّه سياسي موحّد، وهو ما سطع بشكل لافت نهاية القرن التاسع عشر من خلال الحركات القومية التي سعت بالنهاية لتأسيس كيان سياسي مستقل، فالنخب القومية التي قادت هذا الطموح انشقت بالبداية عن كيانات سياسية، وأسّست لنفسها كيانًا قوميًا خارج هذا الانتماء.
لكن، هل يصحّ أن نطلق بشكل عام مفهوم القومية العربية على أساس أنّ كل الدول العربية تتوحّد على لغة واحدة؟ ألا يجتمع كل وطن على عدة قوميات: الأمازيغ، الكرد، تركمان، الأفارقة...؟
واضح أنه في الغالب لا تشكّل هذه الجماعات رغم تميّزها داعيًا للتفرقة، بل لا مجال هنا للتشكيك في فعالية المشروع القومي العربي قط، فعندما نثير جماعة محدّدة تملك وشائج وروابط متميّزة تجعلها تُبلور وجودًا مختلفًا إلى جانب جماعات أخرى، نكون قد أثرنا القومية في معناها الضيّق الذي يُحيل على وجود جماعي صغير مقارنةً مع مفهوم الأمّة الشامل للتعدد، ففي الغالب هذه القوميات رغم تميّزها واختلافها لا تخرج عن سياج الأمّة.
قد تشمل الأمم عدة قوميات، أو لنقل إثنيات، كما يمكن أن تعكس تعددًا لغويًا لمثل هذا التكتل القومي، إذ في المجمل يُعبّر اللفظ عن كيان سياسي يجمع انتماءات متعددة من: قوميات، اثنيات، ألسن متعددة، إنه يشمل الكل المتعدد، تحت راية دولة واحدة، فالأمّة إذن، أفسح من ناحية التعدد من القومية.
القومية هي أقرب لهوية جماعية تعكس ثقافةً ولغةً مشتركة
إنّ الفرق بين اللفظين يتبيّن أيضًا من الناحية التاريخية، وبيان ذلك كالتالي:
- استُخدم مصطلح أمّة سابقًا للحديث عن القومية وجاء في سياق الحديث عن الأمّة الإسلامية، وهنا يحضر بشكل تلقائي التطابق ما بين الأمّة والمِلة، فقد كانت بالبداية الأمّة تُطلق على أتباع الملة الواحدة [الأمة المحمدية]، لكنها استُعملت أيضًا في الإشارة للأمم المخالفة دينًا وثقافةً، وقد تكرّر المصطلح أكثر من مرة في القرآن الكريم وأبرزها: "خير أمّة أُخرجت للناس"، حيث يحضر نوع من الاصطفاء الديني، لكنها استُعملت فيما بعد في محاولات إحداث اللامركزية أمام السلطة العثمانية.
نرى أنّ الطموح الذي كان يسعى إبان حركات التحرّر لتحقيق دولة واحدة تحت راية واحدة، يمكن أن نطلق عليه "أمّة عربية"، ما يعني أنّ كلمة قومية لم تكن رائجة في السياق العربي، وهنا نسجل الأسبقية الزمنية لمفهوم الأمّة على مفهوم القومية.
- أما القومية فهي أقرب لهوية جماعية تعكس ثقافةً ولغةً مشتركةً، تمَّ تحويلها لطموح يرسم كيانًا سياسيًا موحّدًا، وهو طموح حداثي، ارتبط بسياق نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. بهذا تحيل القومية على البعد الفكري للإيديولوجيات القومية التي قامت بقومنة هذه الجماعات وأصبح لها طموح سياسي، لها بُعد إيديولوجي وسياسي، حركي حزبي.
لكن، ألا يجعل هذا الأمر من مفهوم القومية مفهومًا وصفيًا ومعياريًا في الآن نفسه؟ وهذا موضوع يستحق وقفة بالتفصيل.
(خاص "عروبة 22")