وجهات نظر

الحرب السابعة

إنها الحرب الأولى منذ نكبة (1948)، التي تجري وقائعها فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة على بُعد عشرات الكيلومترات من مدينة القدس بكلّ أهميتها ورمزيتها التاريخية والروحية.

الحرب السابعة

تحت صدمة عملية "طوفان الأقصى" كادت إسرائيل أن تفقد ثقتها في قدرة جيشها على الردع وكفاءة مؤسساتها الاستخباراتية والأمنية ومستقبل الدولة نفسها، كما لم يحدث من قبل.

بدت العملية، التي أطلقتها حركة "حماس" يوم (7) أكتوبر في الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر (1973)، مباغتة وعلى درجة عالية من التخطيط العسكري والكفاءة القتالية.

تطوّر جوهري يؤسّس إلى حقبة جديدة في إدارة الصراع وقواعد الاشتباك

كانت تلك المرة الأولى في الحروب العربية الإسرائيلية التي يكون فيها الفلسطينيون الطرف الآخر المباشر على مسارح العمليات الواسعة.

هذا بذاته تطوّر جوهري يؤسّس في كلّ السيناريوهات والاحتمالات إلى حقبة جديدة في إدارة الصراع وقواعد الاشتباك.

أعلنت إسرائيل الحرب واستدعت ثلاثمائة ألف من ضباط وجنود الاحتياط وارتكبت مجازر في غزة المحاصرة لتركيعها دون جدوى، قطعت المياه والكهرباء وإمدادات الطعام عنها واستهدفت طواقم الإسعاف لعلّها تنتقم مما لحقها من إذلال.

بأية مراجعة للحروب العربية الإسرائيلية السابقة، فإنّ الحرب الجارية الآن استلهمت خبراتها ودروسها وروحها العامة.

في الحرب الأولى (1948) لم يكن ميزان القوى والتسليح والجاهزية في صالح الجيوش العربية، التي دخلت فلسطين وتلقّت هزيمة ثقيلة.

كانت فكرة الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين، أن تظلّ الجيوش العربية رابضة على الحدود وأن يتولى الفلسطينيون بعد تسليحهم وتدريبهم المواجهة القتالية في الداخل، ولم يؤخذ بها.

الحروب التالية العدوان الثلاثي (1956) ونكسة يونيو (1967) وملحمة أكتوبر (1973) جرت كلّها في سيناء المصرية وأراضي عربية أخرى لا في الأرض الفلسطينية المحتلّة كما يحدث الآن.

في الحرب الثانية، دخلت القوات الإسرائيلية سيناء إثر تأميم قناة السويس فيما كانت القوات البريطانية والفرنسية تعملان على احتلال مدن القناة وإعادة السيطرة على أهم ممر ملاحي دولي. وقد خرجت مصر من تحت نيران حرب السويس قوة إقليمية عظمى تقود حركات التحرير في العالم الثالث.

الحرب الثالثة استهدفت إجهاض الدور المصري القيادي في عالمه العربي وأي تطلع للتنمية والتقدم، وقد نجحت في إلحاق هزيمة عسكرية مريرة بقواتنا المسلحة، التي لم يتسنّ لها أن تحارب، غير أنّ إرادة القتال استؤنفت بإرادة شعبية كاسحة وأعيد بناء الجيش على أُسُس احترافية.

بعد أيام من الهزيمة العسكرية دخلت مصر حرب "الاستنزاف" بين عامي (1967) و(1970) وقد كانت بتضحياتها وبطولاتها بروفة عبور الجسور بقوة السلاح وجزءًا لا يتجزّأ من ملحمة الحرب الرابعة في (6) أكتوبر (1973) لإزالة آثار العدوان اعتقادًا بأنّ ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغيرها، وقد جرى تنسيق عسكري بين الجبهتين المصرية والسورية ومشاركة جيوش عربية أخرى بقوات ميدانية في القتال، فيما أطلق عليه "قومية المعركة".

بدا غرور إسرائيل سببًا جوهريًا فيما يلحق بجيشها من هزائم مذلّة

ثم جرت حرب خامسة على الأراضي اللبنانية عام (1982) حين اجتاحتها القوات الإسرائيلية، واحتلت العاصمة بيروت، تحت مسعى حصار وإخراج المقاومة الفلسطينية منها، لكنها اضطرت للانسحاب تحت ضغط المقاومة الشعبية المسلحة.

الحرب السادسة، جرت داخل الأراضي اللبنانية مرة أخرى عام (2006) فيما أطلق عليها "حرب تموز"، التي تلقت إسرائيل فيها هزيمة مهينة.

في حربي أكتوبر وتموز تبدى فشل استخباراتي إسرائيلي مروّع في تقدير قوة وجاهزية الجانب العربي.

الفشل الاستخباراتي نفسه حدث في الحرب السابعة الحالية بصورة أكبر وأفدح.

في كل مرّة بدا غرور إسرائيل سببًا جوهريًا فيما يلحق بجيشها من هزائم مذلّة.

وفي كل مرة تتعرّض نظرية أمنها لاهتزازات عنيفة، فجيشها الذي دأبت دعاياته على وصفه بأنه لا يُقهر يجري إذلاله في القتال المباشر إذا ما توافرت الإرادة والحد الأدنى من المستلزمات العسكرية.

في الحرب الحالية بدا الجيش الإسرائيلي مترنّحًا، أخذته صدمة المفاجأة، لم يصمد أمام الموجات الأولى للاقتحام الفلسطيني من غزة المحاصرة والفقيرة إلى داخل الأراضي المحتلة.

استلهم المخططون الفلسطينيون حرب أكتوبر (1973) في الخداع الاستراتيجي والتمويه على العدو بأهدافهم الحقيقية، وفي اختيار يوم عيد يهودي لتوجيه الضربة المباغتة.

قبل خمسين سنة هرعت الإدارة الأمريكية، بنص اعتراف وزير خارجيتها في ذلك الوقت هنري كيسنجر، لإنقاذ إسرائيل من هزيمة استراتيجية كاملة، دعت إلى وقف إطلاق النار ومدّت جسرًا جويًا بأحدث المعدات والأسلحة العسكرية.

الضحية الفلسطينية تتعرّض يوميًا للتنكيل والتقتيل والتهجير القسري دون أن ينهض أحد في العالم لرفع الظلم عنها

وفي أكتوبر الحالي هرعت مرة أخرى لمنع انهيار معنوي إسرائيلي أمام ضربات الفلسطينيين الموجعة، حرّكت حاملة الطائرات "جيرالد فورد" مصحوبة بسفن عسكرية في البحر المتوسط بالقرب من مسرح العمليات باسم "التنسيق الاستخباراتي والعسكري" دفاعًا عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".

مواقف مقاربة تبنّتها الأمم المتحدة نفسها ودول الاتحاد الأوروبي بلا استثناء وأوكرانيا بالتبعية، فيما خيّم الصمت على النظم العربية وبعضها لم يتورع عن إبداء تضامنه مع القتلة الإسرائيليين.

الإعلام الغربي مال إلى تبني مقولة إسرائيل تتعرّض لهجوم إرهابي، ساعيًا إلى إدانة الضحية الفلسطينية، التي تتعرّض يوميًا للتنكيل والتقتيل، والتهجير القسري من البيوت دون أن ينهض أحد في العالم لرفع الظلم عنها.

أيًا ما كانت السيناريوهات والاحتمالات، فإنّ فلسطين رفعت رأسها بقوة سلاح وشجاعة أبنائها وأكدت تحت نيران الحرب السابعة عدالة قضيّتها، وأنّ سلام القوة لن يمر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن